الخطبة الثانية بعنوان: اسم الله المتين
الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ للهِ نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا، أما بعد:
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى، واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى، وَاعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثُاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عِبَادَ اللهِ: مَا أَعْظَمَ أَسْمَاءَ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، ومَا أَطْيَبَهَا وَأَجَلَّهَا وَأَعْذَبَهَا، وَمِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى (الْمَتِينُ)، الذي وَرَدَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58].
وَمِنْ مَعَانِي الْمَتِينِ: الْمُتَنَاهِي فِي الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، الشَّدِيدُ الْقَوِيُّ الَّذِي لَا تَنْقَطِعُ قُوَّتُهُ، وَلَا تَلْحَقُهُ فِي أَفْعَالِهِ مَشَقَّةٌ، وَلَا يَمَسُّهُ لُغُوبٌ.
وَلَاحِظِ التَّنَاسُقَ الْعَجِيبَ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي الآية: الرَّزَّاقُ، ذُو الْقُوَّةِ، الْمَتِينُ، حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى كَمَالٍ فِي الْقُوَّةِ، وَتَنَاهٍ فِي الْقُدْرَةِ، وَشِدَّةٍ فِي الْقُوَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَا الْقَوَّةِ الْمَتِينَ لَمَا كَانَ هُوَ الرَّزَّاقَ الْمُتَكَفِّلَ بِجَمِيعِ رِزْقِ الْخَلْقِ، فَمِنْ قُوَّتِهِ أَنَّهُ أَوْصَلَ رِزْقَهُ إِلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَمْنَعَهُ، أَوْ يَحُولَ بينه وبين خَلْقِه، فَإِنَّ الْقُوَّة للهِ جَمِيعًا.
عِبْدَ اللهِ: إِنَّكَ حِينَ تَتَأَمَّلُ فِي اسْمِ الله الْمَتِينِ وَتَتَدَبَّرُهُ تَشْعُرُ بِعَظَمَةِ اللهِ وَقُوَّتِهِ وَبِحُسْنِ الْمَلَاذِ إِلَيْهِ وَاللُّجُوءِ إِلَيْهِ سُبْحَانَه، فَأَنْتَ تَبُثُّ شَكْوَاكَ لِمَتِينٍ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قُوَّتُهُ لَيْسَ لِلنَّقْصِ فِيهَا مَجَالٌ، فَهُوَ الْمَتِينُ الَّذِي فَاقَ بِقُوَّتِهِ قُوَّةَ الْآخَرِينَ وَلَوِ اجْتَمَعَتْ، وَالْمَتِينُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا، فَهُوَ فِي إِحْقَاقِ الْحَقِّ مَتِين، وَفِي َإزْهَاقِهِ الْبَاطِلَ مَتِين، وَفِي هَيْمَنَتِهِ مَتِين.
وَلِأَنَّ اللهَ هُوَ الْمَتِينُ فَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَلِأَنَّهُ وَحْدَهُ الْمَتِينُ جَعَلَ لِكُلِّ قُوَّةٍ سِوَى قُوَّتِهِ ضَعْفًا، وَلِكُلِّ قُوَّةٍ مَهْمَا طَالَتْ زَوَالًا، وَلِكُلِّ قُوَّةٍ مَهْمَا طَغَتْ وَتَجَبَّرَتْ هَزِيمَةً وَخُسْرَانًا.
عِبَادَ اللهِ: سَادَتِ الْعَالَمَ إِمْبِرَاطُورِيَّاتٌ ظَنَّهَا النَّاسُ ِذَاتَ مَتَانَةٍ، لَكِنْ سُرْعَانَ مَا زَالَتْ، وَأَصْبَحَتْ أَثَرًا بَعْدَ عَيْنٍ، وَحَدَثًا عَابِرًا، وَلَوْ لَمْ يُدَوِّن التَّارِيخُ ذَلِك مَا عَلِمَ عَنْهَا أَحَدٌ، وَكَانَ يَظُنُّ مَن عَاشَ أَوْجَ مَجْدِهَا أَنَّهَا لَنْ تَزُولَ أَوْ تَنْهَارَ، أَوْ يُصِيبَهَا الضَّعْفُ وَالانْكِسَارُ.
فَكُلُّ مَخْلُوقٍ مَهْمَا قَوِيَ يَضْعُفُ، وَكُلُّ قَوِيٍّ مَهْمَا اشْتَدَّتْ قُوَّتُهُ يَنْهَارُ، إِلَّا الْقَوِيّ الْمَتِين الْجَبَّار، فَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، ذُو الْبَأْسِ الشَّدِيدِ.
وَلِأَنَّهُ الْمَتِينُ فَقَدْ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَجَعَلَ حِرَاسَةَ السَّمَاءِ شَدِيدَةً، حَيْثُ مُلِئَتْ حَرَسًا وَشُهُبًا، وَاللهُ هُوَ الْمَتِينُ الذِي قَامَتْ بِأَمْرِهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ.
عِبَادَ اللهِ: وَلِأَنَّهُ الْمَتِينُ عظَّمَتْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَخَضَعَتْ لِأَمْرِهِ الْجِبَالُ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلِأَنَّهُ الْمَتِينُ فَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ الْمَعَارِفِ وَالْمَعْلُومَاتِ، يَقْهَرُ وَلَا يُقْهَرُ، وَيَغْلِبُ وَلَا يُغْلَبُ، فَتَبَارَكَ اللهُ الْمَتِينُ بِقُوَّتِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَعَظَمَتِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْقَوِيُّ الْمَتيِنُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى شَيْئًا ذَا جَوْدَةٍ وَقُوَّةٍ وَصَفَهُ بِالْمَتَانَةِ، فَيِقُولُ: هَذِهِ الْجِبَالُ مَتِينَةٌ، وَهَذا الْبِنَاءُ مَتِينٌ، وَهَذَا الاقْتِصَادُ مَتِينٌ، وِإِذَا حَرَّرَ عَالِمٌ مَسْأَلَةً عِلْمِيَّةً تَحْرِيرًا بَلِيغًا قَوِيًّا قَالُوا: هَذَا قَوْلٌ مَتِينٌ، فَكَيْفَ بِاللهِ تَعَالَى الَّذِي اسْمُهُ الْمَتيِنُ!
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ آثَارِ مَعْرِفَةِ اسْمِ اللهِ الْمَتِينِ أَنْ يَقْطَعَ العَبْدُ رَجَاءَهُ بِمَنْ سِوَاهُ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِيَدِهِ وَحْدَهُ لَا نِدَّ لَهُ، وَلَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَبِذَلِكَ تَزُولُ مِنْ قَلْبِهِ كُلُّ الْمَخَاوِفِ، وَتَتَبَدَّدُ أَمَامَ نَاظِرِهِ كُلُّ الْعَقَبَاتِ، وَهَذِهِ مِنْ مِنَنِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْنَا، حَيْثُ مَلْجَأُنَا إِلَى وَاحِدٍ، وَمَلَاذُنَا إِلَى الْوَاحِدِ.
كَمَا يُعَلّمُنَا هَذَا الاسْمُ أَنْ نَطْمَئِنَّ وَنَرْتَاحَ مَهْمَا بَلَغَ كَيْدُ الخُصُومِ وَقُوَّتُـهُم، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ أَمَامَ قُوَّةِ اللهِ وَمَكْرِهِ وَكَيْدِهِ، قَاَل تَعَالَى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: 183]، فَلَا مَجَالَ لِكَيْدِهِمْ أَمَامَ كَيْدِ الْمَتِينِ.
عِبَادَ اللهِ: كَمَا يُعَلّمُنَا هَذَا الاسْمُ أَنْ يَتَوَاضَعَ الْأَقْوِياَءُ، وَلَا يَغْتَرُّوا بِقُوَّتِهِمْ، فَقُوَّتُهُمْ أَمَامَ قُوَّةِ اللهِ لَا شَيْءَ.
وَإِذَا كُنْتَ ضَعِيفًا فَرَبُّك هُوَ الْقَوِيُّ الْمَتِينُ فَلَا تَخَفْ؛ لِأَنَّكَ عَبْدُ الْمَتِينِ، وَلَنْ يُخْذَلَ عَبْدٌ وَحَّدَ الرَّحْمَنَ، وَلَنْ يُذَلَّ وَلَنْ يُهَانَ، فَإِذَا كَانَ مَوْلَاكَ الْمَتِينَ فَيَجِبُ أَنْ يَمْتَلِئَ قَلْبُكَ بِالسُّرُورِ، وَأَنْ تَشْعُرَ بِأَنَّكَ أَقْوَى النَّاسِ وَأَغْنَى النَّاسِ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ اسْمَ اللهِ الْمَتَينِ يُرْشِدُ الْمُؤْمِنَ أَنْ يَكُونَ رَحِيمًا بِغَيْرِهِ رَفِيقًا بِهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْمَتِينُ قَدْ رَحِمَهُ وَأَعْطَاهُ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ فَأَنْتَ أَحْوَجُ أَنْ تَبْذلَ وتُعْطِيَ، وَأَنْ لَا تَظْلِمَ وَلَا تَطْغَى، فإِن كُنْتَ قَوِيًّا أَمَامَ ضَعِيفٍ فَاللهُ أَقْوَى مِنْكَ، فَتَذَكَّرْ قُوَّةَ اللهِ أَمَامَ قُوَّتِكَ؛ حَتَّى تَعْرِفَ حَجْمَكَ الطَّبِيعِيَّ وَوَزْنَكَ الْحَقِيقِيَّ، فَلَا تُظْهِرْ قُوَّتَكَ أَمَامَ الضُعَفَاءَ مِنْ العُمَّالٍ وَغَيْرِهِمْ فَاللهُ أَقْوَى مِنْكَ، وَأَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِمْ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْفَهْمَ الْعَمِيقَ لاسْمِ الْمَتِينِ يُرْشِدُ الْعَبْدَ لِلتَّوَاضُعِ، وَيَقُودُهُ إِلَيْهِ، وَهِيَ الصّفَةُ التِي إِن اتَّصَفَ بِهَا الْعَبْدُ ارْتَاحَ وَاطْمَأَنَّ وَأَفْلَحَ وَفَازَ، وَإِلَّا فَهُوَ الْخَاسِرُ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ.
اللَّهُمَّ اهْدِنا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنا فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِنا فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنَا شَرَّمَا قْضَيْتَ، إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ، لَكَ الْحَمدُّ عَلَى مَا قَضَيْت، وَلكَ الشُّكْرُ علَى مَا أَعطَيتْ، نَسْتَغْفِرُكَ اللَّهُمَّ مِنْ جَمِيعِ الذُنُوبِ والْخَطَايَا وَنَتُوبُ اٍلَيْك.
الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن.
الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ، حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ.
الَّلهُمَّ ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَاقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ.
الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللهُمَّ أَكْثِرْ أَمْوَالَ مَنْ حَضَرَ وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَطِلْ عَلَى الْخَيْرِ أَعْمَارَهُمْ، وَأَدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90]([1]).
([1]) الخطبة للشيخ صالح بن مقبل العصيمي.