الخطبة الثالثة بعنوان: وهو القاهر فوق عباده
الخطبة الأولى
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، أحمده تعالى حمدًا يتجدد بالعشي والإبكار، وأشكره سبحانه على نعمه الغزار، وأسأله المزيد من فضله المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عالم الغيب والشهادة، وكل شيء عنده بمقدار، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله البررة الأطهار، وصحبه الأئمة الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله تعالى، فهي المنجية من المهالك، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا، فاعبدوه واشكروا له، وأخلصوا له العمل، فهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير سبحانه وتعالى.
عباد الله: الله تبارك وتعالى هو القاهر فوق عباده، علا عليهم فقهرهم، وهو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، ودانت له جميع الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه، واستسلمت واستكانت بين يديه، وخضعت لقهره وسلطانه، قهر جميع الخلائق على ما أراد، فلا يتصرف منهم متصرف، ولا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن إلا بمشيئته، فليس للملوك وغيرهم الخروج عن ملكه وسلطانه، بل هم مدبَّرُون مقهورون بأمره؛ لأنه القاهر الحكيم جل وعلا.
أيها المسلمون: كل من نظر في الكون، وتأمل في مخلوقات الله، وقهره لها وقف على صور متباينة من قهر الله سبحانه لسائر المخلوقات، فقد قهر بعضها ببعض، فخلق آدم وذريته، وسلّط عليهم إبليس وذريته، وخلق إبليس وذريته، وسلّط عليهم الملائكة، يشردونهم كل مشرَّد، ويطردونهم كل مَطْرَد، وخلق النار، وسلط عليها الماء والتراب يكسرانها ويطفئانها، وخلق الحديد وسلط عليه النار تذيبه وتكسر قوته، وخلق الحجارة، وسلط عليها الحديد يكسرها ويفتتها، وخلق الرياح وسلط بعضها على بعض تصادمها، وتكسر حدّتها، وتذهب بها، وخلق الماء وسلط عليه الرياح تصرفه وتكسره، وخلق الحر والبرد، والشتاء والصيف، وسلط كلا منهما على الآخر يذهبه ويقهره، وخلق الليل والنهار، وقهر كلا منهما بالآخر، وكذلك الحيوان على اختلاف ضروبه من حيوان البر والبحر لكل منه مضادّ ومغالب، فسبحان القاهر الحكيم.
أيها الناس: لا شيء في الكون يخرج عن سيطرة ربنا وغلبته، فكل شيء خاضع لأمره في حركته، وفي سكونه، ولا يمكن لمخلوقٍ أن يخرج عن هذه السيطرة الإلهية بحالٍ من الأحوال، قال تعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: 40]، وهذا الأمر ينطبق على حركة المخلوقات جميعًا، وليس الشمس والقمر فحسب، ولكن الله عز وجل حين يضرب الأمثال يضربها بما هو واضح للعيان؛ ليقف الناس على قدرته وحكمته.
يا عباد الله: والقاهر سبحانه له علو القهر فوق جميع المخلوقات على اختلاف تنوعها، فهو قاهر فوق عباده، له علو القهر مع علو الشأن والفوقية، فلا يقوى ملك من الملوك على أن ينازعه في علوه، مهما بلغ في سلطانه أو ظلمه، وإلا قهره الله باسمه القهار.
ومعلوم أن المقهور يحتمي من مَلِكٍ بملك، ويخرج بخوفه من سلطان أحدهما ليتقوى بقوة الآخر، لكن الملوك جميعًا فوقهم ملك قاهر قادر، قال تعالى في سورة المؤمنون: ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون: 88-89].
فليس للخلق ربّ ولا إله غيره سبحانه، وكان النبي ﷺ يفوّض كل أموره إلى ربه القاهر سبحانه، ويخبرنا أن العبد لا يملك لنفسه شيئًا، ويعلمنا اللجوء والاحتماء بقدرة القاهر الحكيم سبحانه، فعن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ t أن النَّبِيّ ﷺ قال: "اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَى مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ"([1])، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه.
أيها المؤمنون: لقد أثنى الله تبارك وتعالى على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه القاهر والقهار، وقد ورد هذا الاسم ومشتقاته في عدة مواضع من كتاب ربنا سبحانه، قال تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [يوسف: 39]، وقال الحق سبحانه: ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الرعد: 16]، أي: هو الذي قهر كل شيء، وخضع لجلاله كل شيء، وذل لعظمته وكبريائه كل شيء، وعلا على عرشه فوق كل شيء.
وقال جل وعلا: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعم: 18]، وقال تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [إبراهيم: 48]، وقال تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16].
وقد ارتبط اسم القهار باسمه الواحد في القرآن الكريم؛ وذلك لأن الله قاهر فوق كل قاهر، فلا يصدق الانفراد في القهر إلا على الله وحده، ولأن كل مخلوق فوقَه مخلوقٌ يقهره، ثم فوق ذلك القاهر قاهرٌ أقوى، حتى تنتهي قوة القهر المطلقة للواحد القهار سبحانه، فالقهر والتوحيد متلازمان، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [ص: 65].
وقد وصف نبينا محمدٌ ﷺ ربه، وهو أعرف الخلق به، وأثنى عليه بأجل أوصاف الكمال والجلال، ومن تلك النعوت والأسماء الحسنى اسم الله القهار، فعن عائشة 1 أنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا تَضَوَّرَ -أَرِق أو تَقَلَّب على فراشه- مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ"([2]).
أيها المسلمون: والقهر لغة: هو السيطرة والغلبة والعلو على الغير، مع تمام القوة والسلطان، والقهار سبحانه هو المسيطر المتحكم في جميع المخلوقات؛ لقدرته عليها، وقهره لها، فالقاهر سبحانه هو الذي أخضع كل شيء، وسيطر عليه، فما من شيء في ملكه إلا وهو خاضع له من المجرة إلى الذرة، ومن الثرى إلى الثريا، ومن الأرض إلى السماء، وجميع العوالم التي في الكون في قبضته سبحانه، لا يخرج شيء منها عن ملكه وسلطانه، فكل ما سواه خاضعٌ له مقهورٌ بين يديه.
والقهار سبحانه هو المذلِّل المستعبد لخلقه، العالي عليهم، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 18]، وقد وصف نفسه بقهره عليهم بالفوقية بقوله: ﴿فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام: 18]؛ إذ إن من صفة كلّ قاهر لشيء أن يكون عاليًا عليه.
وانظر إلى مثال عظيم وملموس نراه رأي العين، كيف أنه سبحانه يمسك السماء أنْ تقع على الأرض، كيف قهرها وجعلها كذلك فلا تسقط؟ بل كيف قهر السحاب ليُسقِطَ قطرات الماء؛ لنشرب منها ونعيش، ولا تسقط السحابةُ نفسها، وهي تحمل آلاف الأطنان، ولو سقطت على الخلق لدمرتهم، وهي نفسها سحابة الخير، سبحان الملك!
فالقهار يضع جميع المخلوقات بين اختيارين: إما أن تكون مقهورة طائعة له، تمتثل ما يريده، فتحظى بالرضا، وتكسب الثواب، وتنال الأجر، وإما أن يقهرك لتفعل ما يريد؛ لأنه القهار، فيُمضي عليك الأمر، ولست برادِّه ولا بدافعه، وتخسر مع هذا الأجر والثواب، وانظر كمثالٍ على هذا فيمن أُصيب بمصيبة كمرض أو موت قريب.
عباد الله: هناك فرق كبير بين قهر الله وقهر المخلوقين، فالإنسان وإن وُصِف بأنه قاهر لغيره من المخلوقين، أو لمن تحت ولايته وسلطته، لكن تلك الصفة تعتبر صفةً سلبية وخُلقًا ذميمًا من ناحية، إضافة إلى أن ذلك القهر يكون محدودًا وقاصرًا من ناحية أخرى؛ لأنه دائمًا ما يصحبه ظلمٌ وتعدٍّ وجَوْرٌ لمن يقهره ويسيطر عليه، أما الله سبحانه وتعالى ففي قهره منتهى العدل والحكمة والرحمة، ولا يكون مع قهر الله ظلمٌ، ولا جورٌ، ولا تعدٍّ.
ويجوز للإنسان المقهور أخذُ حقه من الآخر القاهر له بالطرق الشرعية المتاحة، بينما قهر الله للعبد يجب أن يصحبه رضا من العبد، وتسليم، وإيمان، وصبر، وشكر، إضافة إلى إحسان الظن بالله، ورجاء الثواب.
وقد كان ملوك الفرس والروم يقهرون شعوبهم ويحملونهم على السجود لهم، ولهذا لما جاء الدهقان إلى المدينة لمقابلة أمير المؤمنين عمر t ظنّ أن المسلمين يسجدون لعظمائهم، فهوى الدهقان ليسجد لعمر t، فمنعه عمر t، فعن عُمَر بْن مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: قَدِمَ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْأَعَاجِمِ عَلَى عُمَرَ t، فَسَأَلَ عَنْ عُمَرَ t، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَلَقِيَهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ، فَأَهْوَى الدِّهْقَانُ فَسَجَدَ، فَقَالَ عُمَرُ t: ارْفَعْ رَأْسَكَ لِلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ([3]).
أيها المسلمون: اعلموا أن صور قهر الله لخلقه كثيرة، منها:
أنه سبحانه يقهر المعاندين المتكبرين بإيقافهم وإطلاعهم على الحجج والدلائل على ألوهيته وربوبيته، وأنه المستحق للعبادة وحده، ففي الكون والنفس أدلة ظاهرة، تحاصر العقل والقلب، وهذه الأدلة جعلها ربي قهرًا لمعاني الشك والريب.
ومن صور قهره تعالى لخلقه أنه قهر ألسنة بعض الناس عند الموت، فلا يستطيع النطق بالشهادتين، ويكون لفظهما عليه أثقل من الجبال، مع أن الشهادة أسهل كلمة ينطقها اللسان في الدنيا، ولكن عند الموت يُقْهَر بالمعصية، ولا يُوَفَّق الله لها إلا من كان في حياته مرددًا لها، ملتزمًا بحقوقها، بعيدًا عما يضادها، قال تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27].
ومن صور القهر أنه سبحانه قهر العباد كلهم بالموت، فسواء عمرت طويلاً، أو ملكت كثيرًا، أو أصلحت، أو أفسدت، وسواء كان الإنسان نبيًّا أو ليًّا، أو عدوًّا طاغيًا، أو قويًّا أو ضعيفًا، أو غنيًّا أو فقيرًا، أو صحيحًا أو مريضًا، أو رفيعًا أو وضيعًا، أو ملكًا أو وزيرًا، لا بد أنه سيموت، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت، قال الحي الباقي: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30]، وقال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: 185]، ويستمر هذا القضاء حتى يطال ملك الموت، فيأتي عليه دوره، ويقال له: مت يا ملك الموت، فيذوق طعم الموت، وينادي الله تبارك وتعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ [غافر: 16]، فلا يجيب أحد لأنه لا أحد، فيرد الله تبارك وتعالى: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16]([4]).
والقهار له علو القهر، فهو سبحانه الذي قهر المخلوقات كلها، وقهر وغلب الخلائق جميعًا على ما أراد، وقهر الخلائق كلها بالأمراض والمصائب والنكبات التي لا يستطيعون ردّها عن أنفسهم، فلا يستطيع أحد أن يخرج عن ملكه، ولا يخرج عن تدبيره، ولا يخرج عن تقديره سبحانه، وقهر الخلق كلهم بالموت، وقهر الجبابرة من عتاة الخلق بالعقوبة، وقهر كل جبار بعز سلطانه فدمّره وأهلكه، وأخذه أخذ عزيز مقتدر، كما فعل بقوم نوح، وعاد، وثمود، وفرعون، وقارون.
واحذروا -إخواني- من الكبر، فهذه الدنيا فيها المتكبرون وما أكثرهم! وفيها المجرمون! بينما المستضعفون كثيرون عاجزون يفتقرون إلى مُعين قهار، وملك قادر جبار، فالواحد القهار هو ملجأهم، وهو بالمرصاد لكل متكبر جبار، يقصم ظهر الجبابرة من أعدائه، فيقهرهم بالانتزاع والإماتة والإذلال، ويقهر من نازعه في ألوهيته وعبادته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته، يقهر الظالمين، وقهره عظيم أليم.
وكم سمعنا من جبابرة أهلكهم الله، أتاهم الأمر ليلاً أو نهارًا فجُعلوا حصيدًا كأن لم يغنوا بالأمس، فمن الذي تجرّأ على انتزاع ملكهم؟ ومن الذي أرغم أنوفهم في التراب، وملأ أفواههم من الطين الذي طالما ملؤوا به أفواهَ البشريّة المغلوبة على أمرها؟ إنّه الله القهّار الجبّار الكبير المتعال، قاهر القياصرة، وقاصم الجبابرة.
يا عباد الله: كل من يتدبر في الكون المنظور بكل ما يحتويه يوقن بقوة وعظمة قهر الله سبحانه للكون وما فيه، فإذا نظرت نظرة عابرة إلى الكون وجدت أن كل مخلوق يسير وفقًا للغاية التي أرادها الله من خلقه، وأقرب مثال قهره للشمس والقمر، وجعلهما يسيران بنظام محكم دقيق لا يختل، قال تعالى: ﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: 40]، فالشمس تجري لمستقر لها في فلك خاص بها، والقمر في فلكه الخاص، وليس للشمس أن تقترب من مسار القمر، ولا للقمر أن يقترب من مدار الشمس، كل منهما يسير في المدار المرسوم، ولا يخرج عنه، مما يحول دون التصادم بينهما، ومثل هذا التدبير قائم في نظام كل مخلوق، فسبحان القاهر الحكيم.
والنبات آية أخرى من آيات الله، قهره الله بالإنسان والحيوان، يأكله ويقطعه، وقهر الإنسان والحيوان بالمرض يقعده ويؤلمه، فكل مخلوق له قاهر أعلى منه يقهره، حتى ينتهي القهر الكامل الشامل لله الواحد القهار.
فكل شيء مسخر وخاضع للقهر الإلهي المطلق، حتى أعمال العباد، فمن كفر أو أشرك أو عصى فإنه لم يخرج عن إطار هذا القهر، وفي ذلك يقول جل وعلا: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 99]، وقهر العصاة بالأمراض والأوجاع والمصائب، وقهر إرادة البشر لإرادته، فأنت تريد شيئًا، والله يدبر ويريد، ولا يكون في كونه إلا ما يريد، قال المولى سبحانه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: 24].
وفي هذه القصة العجيبة يتجلى الكثير من معاني القهر: يُحكى أن أميرا كان يكره شخصًا كرهًا شديدًا، وكان سجينًا عنده، وفي يوم من الأيام ذُكِر اسمُ هذا الرجل في مجلسه، فغضب غضبًا شديدًا، وكتب في كتاب لرئيس الشرطة أن يُصلَب، ولكن رئيس الشرطة أطلقَ سراحه، فسأله الأمير: لماذا أطلقته؟ قال: أنت كتبت لي ذلك، فلما رجع لكتابه وجد أنه كتب: (يُطلَق)، كررها ثلاث مرات، فقال له رئيس الشرطة: يا أمير المؤمنين، والله لقد أخطأت ثلاث مرات، وكتبت (يُطلَق)، فسكت الأمير، وقال: نعم نعم، يُطلق، من أراد الله أن يُطلقه لن يستطيع الأمير أن يصلبه، فقهره الله وهو يكتب، فسبحان القهار المجيد، الفعّال لما يريد، يُجري أقلام عباده كما يريد، وهو على كل شيء قدير.
وفقني الله وإياكم لصالح القول والعمل، وهدانا صراطه المستقيم، ونفعني وإياكم بالقرآن العظيم، وجعلنا من عباده الشاكرين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
([1]) أخرجه البخاري (247)، ومسلم (2710).
([2]) أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (10634).
([3]) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (8783).
([4]) أخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده» (10).
الخطبة الثانية
الحمد لله يخلق ما يشاء ويختار، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأبرار، المهاجرين منهم والأنصار، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
يا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، وأجلّوه حق إجلاله، واقدروا له قدره، واعلموا أن الإنسان عندما يتيقن أن الله هو القهار يستشعر حينها ضعفه، وحاجته، ويعرف قدْره، وقلة حيلته، وهوانه على الله، وعندها لا يتمرد عن طاعة ربه ونبيه، ولا يتكبر ولا يستنكف على عباده، بل يتواضع، ويعلم أن من سخّر له ما في الكون قادرٌ على أن يذله ويصغّره، فهو الذي أخضع وأذل كل ما في هذا الكون لابن آدم، قال الله: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15].
فالقهار هو الذي قهر نفوس العابدين فحبسها على طاعته، وقهر قلوب الطالبين فآنسها بلطف مشاهداته، والعباد لما أقبلوا على الله فعبدوا، وانقادوا، وحبسوا أنفسهم على طاعته قهرهم الله بجماله، وقهرهم بكماله، هذه المعاني التي يجب أن يتمثلها المؤمن من اسم القهار.
فالله سبحانه قهر البشر وجعلهم مسخرين لعبادته، وقهر الكائنات وجعلها مسخرة لخدمة البشر، فقد ذلل الله للإنسان الجمل بحجمه الضخم، وإلا فمن كان يقدر على الانتفاع به لولا تذليل الله وتسخيره؟ قال سبحانه: ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ [يس: 72]، وفي المقابل لم يأذن بتذليل الفأر مع صغر حجمه، وفي هذا دليل على أنه تعالى مالك القوة العظمى المدبرة، والمتصرفة، والقاهرة في هذا الكون، وهذه القوة تتجلى في أكمل صورها يوم القيامة عندما يخضع كل شيء لإرادة الله في الفناء؛ ليبقى وجهه سبحانه.
ثم إن العبد المؤمن إذا عرف أن الله "قهّار" و"قاهر" عرف حجم عبوديته، وحديث العبد أنه سيفعل كذا، وكذا، ويعطي ويمنع من غير تعليق بمشيئة الله وقهره لا يصح؛ لأنه يتنافى مع تعبد المؤمن باسم الله القهار، قال تعالى: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ [الكهف: 23]، بل الأصل ومن منطلق الإيمان بالقهار سبحانه أن يُسند الإنسان إرادته وفعله إلى مشيئة الله وقهره، ولا يجعل إرادة نفسه مجردةً ونافذةً، حيث يقول القهار: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29].
أيها المسلمون: ينبغي للعبد العاقل أن يعمل على قهر نفسه بالاستغفار والتوبة، وقهر وسواس الشيطان بالاستعاذة، وقهر الشُّبَه والجهل باليقين ونور العلم، وقهر كل ظالم جبار بالاستعانة بالله الواحد القهار، والاستعاذة من شرّه وكيده، قال تعالى: ﴿وَقَال الملأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ ليُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلهَتَكَ قَال سَنُقَتِّل أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُون * قَال مُوسَى لقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ للمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128].
وإن على المسلم أن يلين للفقراء والمستضعفين، ويحنو على اليتامى والمساكين، والمسلمين عمومًا، ويخص من لا يقدر على أخذ حقه من الضعفاء والمساكين، ويعفو عند المقدرة عن المسيئين الذين زلَّ بهم لسانُ، أو هفت بهم قدمٌ، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِل فَلا تَنْهَرْ﴾ [الضحى: 9-10]، وعن عَبْد الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ t أن رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "ثَلاَثٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنْ كُنْتُ لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ: لاَ يَنْقُصُ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ فَتَصَدَّقُوا، وَلاَ يَعْفُو عَبْدٌ عَنْ مَظْلَمَةٍ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"([1]).
ومن صور التعبد لله باسمه القاهر خشيته، والاستسلام له عز وجل، وصلاح النفس، وذلك بقهرها على الخير، وسؤال الله ثبات القلب عند نزول المنية، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء، لذا كان ﷺ كما في حديث أَنَسٍ t يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: "يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"، فَقال أنس: يَا رَسُولَ اللهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ"([2])، واسم الله القهار لا يدعو للخوف والرعب أبدًا، بل يدعو لخشية الله وتعظيمه عز وجل.
أخي المسلم: اقهر شيطانك الذي قرَنه الله بك، وجعله ملازمًا لك بطاعتك لله، والاستعانة عليه بما منحك الله من وسائل شرعية، وتحصينات نبوية، واقهر عدوك الإنسي، فعن عقبة بن عامر t أن رسول الله ﷺ قال: "لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ"([3]).
وختامًا أيها المسلمون: آه لو فهم الحيارى والتائهون جلال وعظمة ربهم، في علوه مع قربه، وفي قهره مع رحمته، إن الله عز وجل هو القاهر فوق عباده المهيمن عليهم، فهو فوقهم بذاته، له علو القهر والشأن، مَلِكٌ استوى على عرشه، لا يخفى عليه شيء في مملكته، يعلم جميع أحوالهم، ولا يغيب عنه شيء من أعمالهم، محيط بالعالمين، مهيمن بقدرته على الخلائق أجمعين، وهو على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يعجزه شيء ولا يفتقر إلى شيء، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وهو مع قهره لهم رؤوف بهم حليم رحيم، يرزقهم ويعافيهم، ويوسع عليهم، ومن كل خير يعطيهم، إن تابوا تاب عليهم، وإن استغفروه غفر لهم.
اللهم اقهر أعداءنا، وقنا شر شياطين الإنس والجن، ونجنا برحمتك من كل سوء، إنك بكل جميل كفيل، وأنت حسبنا ونعم الوكيل.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، زدنا ولا تنقصنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك.
اللهم ارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين([4]).
([1]) أخرجه أحمد في «المسند» (1674).
([2]) أخرجه الترمذي (2140)، وابن ماجه (3834).
([3]) أخرجه مسلم (1924).
([4]) الخطبة من ملتقى الخطباء، الفريق العلمي.