اسم المحسن

اسم كاتب الخطبة: الخطبة للشيخ أحمد الطيار

المحسن

وفي هذا الاسم خطبة واحدة بعنوان: اسم الله المحسن

الخطبة الأولى

الْحَمْدُ لِلَّهِ الكبيرِ المتعال، صاحبِ العطايا والكرم والإفضال، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً أدَّخرها ليومٍ تزولُ فيه الجبال، ويذوق المجرمون فيه الذلَّ والوبال، ويتحلَّى المتقون بأتمِّ النَّعيمِ وأشرفِ الكمال.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ الْخلقِ بلا جِدال، أوْضَح ما تحتاجه الأُمَّةُ في الحاضر والمآل، فمَنْ ضلَّ عن سنَّته فقد وقع في الحيرة والضلال، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وأصْحابه وتابعيهم، وَسَلَّمَ تسْليماً كثراً مزيدا إلى الْيومِ الذي تُعرضُ فيه الأعمال، أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن من أسماء الله تعالى المحسن.

والمحسن سبحانه هو الذي له كمال الحُسن في أسمائه وصفاته وأفعاله، كما قال تعالى في كتابه: ﴿اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه: 8].

فلا شيء أكمل ولا أجمل من الله، فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعته، وهو الذي لا يُحَدّ كماله، ولا يوصَف جلاله، ولا يحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه.

وإذا كنتَ ممن اصطفاه الله فآمن به وصدّق رُسله فقد خصك الله بالإحسان العظيم.

وإذا أردتَ أن تقف على شيء من إحسان الله إليك -يا من آمنت به وتمسّكت بشرعه- فانظر إلى هذا الاصطفاء:

في هذا الكون الفسيح آلاف المجرات بما تحويه من ملايين النجوم والكواكب الكبيرة والصغيرة، وفي مجرتنا وحدها أكثر من ثلاثمائة مليار نجم وكوكب، وفي كوكب الأرض ملايين الكائنات والمخلوقات، اصطفى الله منها بني آدم، ورفعهم على جميع المخلوقات، فكرمهم وجعل لهم عقولاً، ثم اصطفاك -أيها المؤمن- من بين مليارات البشر فجعلك مسلمًا مؤمنًا بالله ورسوله، سالكا طريق الهداية والنور.

فقل قائما وقاعدا وفي كل حال: الحمد لله رب العالمين.

فقد أفاض عليك المحسن ذو الفضل الواسع، والرحمة السابغة من عطائه ورحمته بلا سبب، سوى أنّ الفيض والعطاء من صفاته الذاتية الكريمة.

أكرمك الله سبحانه كرامةً لا تكاد تتصورها، ولا تستطيع أنْ توفيَّها حقَّها وشكرَها.

وما أعظم إحسان الله تعالى علينا حينما اختار رسولا من جنسنا، يوحي إليه بكلماته، وجعل الأرض مسكنه، ومَهْبطًا لكلماتِه وآياتِه التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال.

هذا مع تواتر إحسان الله إليك على مدى الأنفاس:

أزاح عللك، ومكنك من التزود إلى جنته، وبعث إليك الدليل، وأعطاك مؤنة السفر وما تتزود به، وما تحارب به قطاع الطريق عليك، فأعطاك السمع والبصر والفؤاد، وعرفك الخير والشر، والنافع والضار، وأرسل إليك رسوله، وأنزل إليك كتابه، ويسره للذكر والفهم والعمل، وأعانك بمدد من جنده الكرام يثبتونك ويحرسونك، ويحاربون عدوك ويطردونه عنك، ويريدون منك أن لا تميل إليه ولا تصالحه، وهم يكفونك مؤنته.

وَطَرَدَ إبليس عن سمائه، وأخرجه من جنته، وأبعده من قربه؛ إذ لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك آدم، لكرامتك عليه.

إن كنت من أهل طاعته كنت من أهل كرامته، وإن كنت من أهل معصيته لم يُقنّطك من رحمته، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإن لم تتب إليه أمهلك، وابتلاك بالمصائب ليُطهرك من المعايب.

الحسنة عنده بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة عنده بواحدة، فإن ندمت عليها واستغفرته غفرها لك.

يشكر اليسير من عملك، ويغفر الكثير من زللك، رحمته سبقت غضبه، وحلمه سبق مؤاخذته، وعفوه سبق عقوبته، هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، "لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض ‌دَوِّيَّة ‌مهلكة، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته، وعليها زاده طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده"([1]).

وهذه فرحةُ إحسان وبر ولطف، لا فرحة محتاج إلى توبتك، منتفع بها، وكذلك موالاته لك إنما هو إحسان منه إليك، ومحبةٌ لك، وبرٌّ بك، لا يتكثَّر بك من قلة، ولا يتعزز بك من ذلة، ولا ينتصر بك من غلبة، ولا يعدك لنائبة، ولا يستعين بك في أمر.

معاشر المسلمين: إن مظاهر إحسان الله للعباد كثيرة نقف عند بعضها، فمن ذلك:

أنه خلقهم من عدمٍ إلى وجود بمقتضى صفة الكرم والجود، قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان: 1]، وبعد خلقهم صورهم في أحسن الصور، قال تعالى: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر: 64]، ثم زين الإنسان بالعقل حتى يمتاز عن سائر الحيوانات، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78]، وبين له طريق الخير والشر، قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 3]، وقال: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 8-10].

ومن مظاهر إحسان الله للعباد: أن سخر لهم الكون كله، سخر لهم الأرض وما فيها من الخيرات، قال جل شأنه: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15]، وكذا سخر البحار وما فيها من الخيرات والنعم العظيمة، وسخر كل الكائنات لابن آدم؛ ليحقق ما ينفعه، ويدفع ما يضره، وليحمل رسالة الإيمان، وليعمر الأرض بطاعة ربه.

ومن مظاهر إحسانه سبحانه: أن أرسل الرسل مبشرين ومنذرين؛ ليحيوا الفطرة التي فطر الله عباده عليها، ويقيموا حجته على العباد، ويرشدوهم إلى دين الله، ويحذرونهم من معاصي الله، ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165].

ومن إحسانه: هدايته للإسلام، وهذا أعظم الإحسان والإنعام، وهو المراد بما ذُكِرَ في القرآن من الهدى والنور، والشَّرح للصدور، وجَعَل أمة محمد ﷺ خير الأمم، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110].

ومن إحسانه: ما أنعم به على خلقه من الرزق الحلال، واتساع المال، حتى لا يُحتاج إلى أحدٍ من الخلق، وهذه نعمةٌ يجب شكرها، إذ ليس كل أحدٍ يُعطاها.

ومن إحسانه للعباد: أن جعل جزاء الأعمال مضاعفا، ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160].

ومن إحسانه: فتح باب التوبة والإنابة إليه؛ ليتوب الناس من خطاياهم وسيئاتهم، وهو القائل: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222]، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى: 25].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه كان غفوراً رحيماً.

 

([1]) أخرجه مسلم (2744).

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:

عباد الله: قال ابن القيم -رحمه الله- موضحًا بعض مظاهر إحسان الله إلى عباده في كل مراحل حياتهم: "الرزق والأجل قرينان مضمونان، فما دام الأجل باقيا كان الرزق آتيا، وإذا سد عليك بحكمته طريقا من طرقه فتح لك برحمته طريقا أنفع لك منه:

فتأمل حال الجنين يأتيه غذاؤه وهو الدم من طريق واحدة وهو السرة.

فلما خرج من بطن الأم، وانقطعت تلك الطريق فتح له طريقين اثنين وأجرى له فيهما رزقا أطيب وألذ من الأول، لبنا خالصا سائغا.

فإذا تمت مدة الرضاع، وانقطعت الطريقان بالفطام فتح له طرقا أربعة أكمل منها: طعامان، وشرابان، فالطعامان من الحيوان والنبات، والشرابان من المياه والألبان، وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ.

فإذا مات انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة، لكنه سبحانه فتح له إن كان سعيدا طرقا ثمانية، وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء"([1]).

اللهم تابع علينا إحسانك، وارزقنا توبةً تمحو بها ذنوبَنا، وتغسل بها زلاتنا ومعاصينا، إنك على كل شيء قدير([2]).

 

([1]) الفوائد (1/79).

([2]) الخطبة للشيخ أحمد الطيار.

عدد الكلمات

2071

الوقت المتوقع

34 د


منبر الحسنى

تاريخ الطباعة/التصدير: 2025-11-14 16:17م