الحكيم
وفي هذا الاسم أربع خطب
الخطبة الأولى بعنوان: تأملات إيمانية في اسم الله الحكيم
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71]، أما بعدُ:
عباد الله: من أسماء الله جل وعلا (الحكيم)، والحكمة هي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها.
والله جل وعلا هو الحكيم الذي له الحكمة العليا في خلقه وأمره، الحكيم في أقواله، الحكيم في أفعاله، الحكيم في تدبيره، فلا يفعل شيئا عبثا، ولا لغير مصلحة وحكمة، ولا يشرع شيئا سدى، ولا يدخل في تدبيره خلل ولا زلل، حكمة بالغة.
والله جل وعلا له الحكم في الأولى والآخرة وله الأحكام الثلاثة لا يشاركه فيها مشارك، فيحكم بين عباده في شرعه، وفي قدره، وفي جزائه.
وإذا تأملت في حكمة الله جل وعلا انبهر عقلك من حكمته، فكل حكيم في الدنيا جلست معه وانبهرت من رأيه وحكمته فالله سبحانه هو الذي علمه، فالله هو الحكيم، وهو الذي علم الحكماء الحكمة، ﴿يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء﴾ [البقرة: 269].
أحكم سبحانه جميع ما خَلَقَ، وأتقنه بأحسن خلق وأتم نظام، فلا يمكن لأحد من الخلق أن يقترح أحسن منه.
السماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، وخلق الحيوانات باختلافها، والطيور بأنواعها وأشكالها وألوانها، ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ [لقمان: 11].
أعطى كل مخلوق خَلْقَه اللائق به، بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات وكل عضو من أعضاء الحيوانات خَلْقَه وهيئَتَه اللائقة به، لا ترى في ذلك خللا ولا نقصا، ﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ [الملك: 3].
بل لو اجتمعت عقول الخلق ليقترحوا مثلا لهذه الموجودات لم يقدروا ولن يقدروا، ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 88].
والله جل وعلا كما لا يشبهه أحد في صفاته وفي العظمة والحسن والجمال فكذلك لا يشبهه أحد في أفعاله.
والله جل وعلا هو الحكيم الذي لا يفعل شيئا عبثا، ولا لغير مصلحة وحكمة، فخلق الخلق لحكمة عظيمة، وغاية جليلة، وهي عبادته سبحانه، فلم يخلقهم عبثا، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون﴾ [الذاريات: 56]، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص: 27].
والله جل وعلا هو الحكيم الموصوف بكمال حكمته في أمره وشرعه، فلا يأمر سبحانه ولا ينهى إلا بما فيه المصلحة والحكمة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
ومن أعظم الحكم في ذلك معرفته سبحانه وعبادته حق عبادته، فشرع الشرائع وأنزل الكتب وأرسل الرسل؛ ليعرفه العباد ويعبدوه، فأي حكمة أجل من هذه؟ وأي فضل وكرم أعظم من هذا؟ فإن معرفته سبحانه وعبادته وحده لا شريك له وشكره والثناء عليه أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق، كما أنها السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية، والنعيم الدائم.
وإذا علم العبد بأن الله سبحانه هو الحكيم، وشاهد شيئا من آثار حكمته في خلقه وإتقانه لصنعه أثمر ذلك في قلبه محبةً عظيمةً لله عز وجل؛ لما شاهده من هذا الخلق البديع، والصنع المتقن.
ومن شاهد آثار حكمة الله أثمر ذلك في قلبه تعظيم الله تعالى، والخوف والحياء منه سبحانه، والتأدب معه.
وإذا شاهد المؤمن آثار حكمته سبحانه في أوامره ونواهيه الشرعية التي فيها مصالح العباد والبلاد شعر بالغبطة والسرور أن هداه الله لهذه الشريعة العظيمة التي هي من لدن حكيم خبير، فأذعن لأحكامه الدينية، وأوامره الشرعية.
وإذا علم المؤمن أن الله سبحانه هو العليم الحكيم الذي كمل علمه وكملت حكمته فلا بد أن يعلم أن علم الإنسان قليل، وأن مبنى العبودية على الإيمان بالله والتسليم له، وعدم التنطع في السؤال عن الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، فالله جل وعلا يقضي بما يشاء من تحليل وتحريم، وله الحكمة البالغة في ذلك، وليس لأحد أن يراجع الله في حكمه كما يراجع الناس بعضهم بعضا في أحكامهم، ﴿وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [الرعد: 41].
فالمؤمن لا يسأل: لم أمر ربنا؟ وإنما يسأل: بم أمر ربنا؟ وقَدَمُ الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم، وذلك يوجب تعظيم الرب تعالى وأمره ونهيه.
وإذا علم المؤمن أن الله سبحانه هو الحكيم فليعلم أن كلام الله أيضا حكيم، ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [يونس: 1].
فالقرآن كتاب حكيم ومحكم، حكيم في أسلوبه، حكيم في هدايته ورحمته، حكيم في إيضاحه وبيانه، حكيم في أمره ونهيه، حكيم في ترغيبه وترهيبه، حكيم في وعده ووعيده، حكيم في قصصه وأخباره ، حكيم في أقسامه وأمثاله، حكيم في كل ما اشتمل عليه.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
أيها الأحبة: الله جل وعلا هو الحكيم الذي له الحكم كله في الدنيا والآخرة، سواء الأحكام الكونية القدرية، يعني ما قضاه الله وقدره، أو الأحكام الدينية الشرعية التي أمر بها أو نهى عنها.
فحكم الله جل وعلا نوعان:
الأول: حكم كوني قدري، فما قضاه الله على العبد، فالواجب عليه التسليم، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
الثاني: الحكم الشرعي الديني، فإذا أمر الله بأمر شرعي وحكم به فالواجب التسليم والانقياد، وترك المنازعة.
وهذا تسليم العبودية المحضة لله، فإذا تلقى أمر ربه وسلم وأذعن له بقي عليه انقياد وتسليم آخر، وهو العمل والتنفيذ، فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله في تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهة تعارض إيمانه وإقراره.
وهذا هو القلب السليم الذي سلم من شبهة تعارض الحق، وشهوة تعارض الأمر([1]).
([1]) الخطبة للشيخ فهد بن سعد أبا حسين.