القادر والمقتدر والقدير
وفي هذه الأسماء خطبتان
الخطبة الأولى بعنوان: قدرة الله تعالى
الخطبة الأولى
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السماوات وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فاطر: 1]، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الملك: 1]، أَحْمَدُهُ وَأَشْكُرُهُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَفَرَّدَ بِصِفَاتِ الجَلَالِ وَالكَمَالِ، وَتَنَزَّهَ عَنِ الأَنْدَادِ وَالأَمْثَالِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَعْلَمُ النَّاسِ بِرَبِّهِمْ، وَأَتْقَاهُمْ لَهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللهُ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، اتَّقُوا مَنْ لَهُ مُلْكُ السماوات وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قُدْرَتُهُ فَوْقَ كُلِّ قُدْرَةٍ، وَقُوَّتُهُ تَغْلِبُ كُلَّ قُوَّةٍ، أَرَانَا عَجَائِبَ قُدْرَتِهِ، وَدَلَائِلَ قُوَّتِهِ فِيمَا خَلَقَ وَقَدَّرَ، خَلَقَ السماوات وَالأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فُصِّلَتْ: 11].
قُدْرَتُهُ تَعَالَى لَا تَخْضَعُ لِمَا عَرَفَهُ البَشَرُ مِنْ قَوَانِينِ الكَوْنِ وَالحَيَاةِ، فَقُدْرَتُهُ تَخْرِقُ هَذِهِ القَوَانِينَ، وَمَنْ وَضَعَ هَذِهِ القَوَانِينَ فِي الكَوْنِ إِلَّا هُوَ سُبْحَانُهَ وَتَعَالَى! وَقَانُونُ الكَوْنِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُبْنَى لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَمَدٍ؛ لِكَيْلَا يَسْقُطَ، وَاللهُ تَعَالَى ﴿رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [الرَّعْدُ: 2].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "أَي: هِيَ مَرْفُوعَةٌ بِغَيْرِ عَمَدٍ كَمَا تَرَوْنَهَا، وَهَذَا هُوَ الأَكْمَلُ فِي القُدْرَةِ"([1])، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [الحَجُّ: 65].
إِنَّ السَّمَاءَ لَمِنْ أَكْبَرِ الأَدِلَّةِ عَلَى قُدْرَةِ الخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي ارْتِفَاعِهَا، وَمَا فِيهَا مِنْ أَنْجُمٍ وَأَفْلَاكٍ، وَشَمْسٍ وَقَمَرٍ وَسَحَابٍ.
وَفِي الأَرْضِ مِنَ المَخْلُوقَاتِ وَالعَجَائِبِ مَا يَبْهَرُ العُقُولَ، وَيَسْتَوْلِي عَلَى النُّفُوسِ، ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ [الذَّارِيَاتُ: 20]، فِيهَا مِنَ الآيَاتِ الدَّالَةِ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ البَاهِرَةِ مِمَّا قَدْ ذَرَأَ فِيهَا مِنْ صُنُوفِ النَّبَاتِ وَالحَيْوَانِ، وَالمِهَادِ وَالجِبَالِ وَالقِفَارِ، وَالأَنْهَارِ وَالبِحَارِ، وَمَا بَثَّ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ [الشُّوَرى: 29].
وَنَوَّعَ بِقُدْرَتِهِ هَذِهِ الدَّوَابَّ، ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [النُّورُ: 45].
وَمِنْ دَلَائِلِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى مَا يُنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَيُبْقِيهِ فِي الأَرْضِ، وَلَوْ شَاءَ لَذَهَبَ بِهِ، ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [المؤْمِنُونَ: 18-19].
إِنَّهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ جَعَلَ حَيَاةَ الأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا بِهَذَا المَاءِ، إِنِ ارْتَوَتْ مِنْهُ حَيَتْ، وَإْنْ فَقَدَتْهُ مَاتَتْ.
وَكَمَا يُحْيِي الأَرْضَ بِالماءِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى بَعْثِ المَخْلُوقِينَ، وَلَوْ كَذَّبَ المكَذِّبُونَ، وَعَانَدَ المعَانِدُونَ، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فُصِّلَتْ: 39]، ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الرُّومُ: 50].
لَقَدْ كَذَّبَ المشْرِكُونَ وَالملَاحِدَةُ بِذَلِكَ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الموْتَى، وَبَعْثِ الخَلْقِ مَرَّة أُخْرَى، وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ السماوات وَالأَرْضِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ هَذَا الإِنْسَانُ، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأَحْقَافُ: 33]، ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يَس: 81-83]، أَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِعَادَةِ الخَلْقِ كَرَّةً أُخْرَى مَنْ خَلَقَ المَرَّةَ الأُولَى! أَلَا تَظْهَرُ قُدْرَتُهُ لِكُلِّ مَنْ يَعْقِلُ وَقَدْ خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ طِينٍ، وَمِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، وَمِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ! وَسَوَّاهُ مِنْ نُطْفَةٍ لَا قِيمَةَ لَهَا! ﴿أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القِيَامَةُ: 36-40]، بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا وَقُدْرَتِهِ، ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ [الطَّارِقُ: 8].
وَخَلْقُ الإِنْسَانِ، وَسَيْرُهُ فِي الحَيَاةِ، بِدَايَةً وَنِهَايَةً، وَضَعْفًا وَقُوَّةً لَمِنْ دَلَائِلِ قُدْرَةِ الخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، جَعَلَ لِلْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَطْوَارًا يَنْمُو فِيهَا شَيْئًا شَيْئًا حَتَّى يَأْذَنَ بِخُرُوجِهِ إِلَى الدُّنْيَا ضَعِيفًا، ثُمَّ يَقْوَى، ثُمَّ يَضْعُفُ، حَتَّى يَنْتَهِيَ، إِنَّهَا لَعِبْرَةٌ! وَإِنَّهَا لَدَلِيلُ قُدْرَةٍ! فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الرُّومُ: 54].
رَزَقَ الإِنْسَانَ العَقْلَ، وَسَخَّرَ لَهُ الخَلْقَ، وَأَمَرَهُ بِحَمْلِ الأَمَانَةِ وَعِمَارَةِ الأَرْضِ، وَإِقَامَةِ الدِّينِ لَهُ تَعَالَى، فَآمَنَ أَقْوَامٌ، وَكَفَرَ آخَرُونَ، فَكَانَ الاخْتِلَافُ وَالاحْتِرَابُ عَلَى الأَرْضِ بَيْنَ الإِيمَانِ وَالكُفْرِ، بَيْنَ الهُدَى وَالضَّلَالِ، بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ قَائِمًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ تَعَالَى يَنْصُرُ المؤْمِنِينَ، وَيُهْلِكُ المكَذِّبِينَ، مَنْ أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ؟ وَمَنْ أَرْسَلَ الرِّيحَ عَلَى عَادٍ وَقَوْمِهِ؟ وَمَنْ أَهْلَكَ ثَمُودَ بِالصَّيْحَةِ؟ وَمَنْ خَسَفَ بِقَارُونَ وَدَارِهُ؟ وَمَنْ دَمَّرَ جُمُوعًا مِنَ المعَانِدِينَ؟ وَمَنْ نَصَرَ أَوْلِيَاءَهُ المؤْمِنِينَ، وَأَظْهَرَ عِبَادَهُ المتَّقِينَ؟ إِنَّهُ تَعَالَى، هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ.
لَقَدْ حَذَّرَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ التَّمَرُّدِ وَالعِصْيَانِ، وَأَبَانَ لَنَا عَاقِبَةَ ذَلِكَ، وَضَرَبَ لَنَا الأَمْثَالَ بِمَنْ قَبْلَنَا، وَأَوْضَحَ لَنَا أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَقَالَ فِي المكَذِّبِينَ: ﴿وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤْمِنُونَ: 95]، وَقَالَ فِي المنَافِقِينَ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البَقَرَةُ: 20].
إِنَّهُ تَعَالَى حَذَّرَنَا مِنْ عَاقِبَةِ القُعُودِ عَنْ نُصْرَةِ الدِّينِ مَهْمَا كَانَتِ التَّبِعَاتُ وَالتَّضْحِيَاتُ، وَإِذَا قَصَّرْنَا فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُبْدِلَنَا بِخَيْرٍ مِنَّا، ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [مُحَمَّدٌ: 38]، ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ [المعَارِجِ: 40-41]، ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ [النّسَاءُ: 133]، وَمَا نَعْمَلُ مِنْ طَاعَاتٍ تَنْفَعُنَا، وَلَا تَنْفَعُهُ تَعَالَى، وَمَا نُقَارِفُ مِنَ عِصْيَانٍ يَضُرُّنَا، وَلَا يَضُرُّ اللهَ تَعَالَى شَيْئًا.
وَلَمَّا اسْتَنْفَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَيًّا مِنَ العَرَبِ فَتَثَاقَلُوا عَنْهُ أَمْسَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمُ القَطْرَ فَكَانَ عَذَابَهُمْ، ﴿إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التَّوْبَةُ: 39]([2])، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ الخَلْقِ أَنْ يَمْلِكَ النَّفْعَ وَالضُّرَّ مَهْمَا بَلَغَ، بَلْ ذَلِكَ بِيَدِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الأَنْعَامُ: 17-18].
إِنَّ البَشَرَ يُشَاهِدُونَ قُدْرَةَ اللهِ تَعَالَى فِي الإِهْلَاكِ وَالعَذَابِ، وَلَا يَمْلِكُونَ حِيَالَهَا شَيْئًا مَعَ كُلِّ مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنْ عُلُومٍ وَصِنَاعَاتٍ، يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى الرِّيحَ فَتَأْتِي تُدَمِّرُ مَا أُمِرَتْ بِهِ، تَقْتَلِعُ الأَشْجَارَ، وَتَهْدِمُ البُيُوتَ، وَتُهْلِكُ مَنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، لَا يَمْلِكُ البَشَرُ لَهَا دَفْعًا، وَيَأْتِي الفَيَضَانُ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فَيُغْرِقُ المدُنَ وَمَنْ فِيهَا، وَالزَّلْزَلَةُ آيَةٌ أُخْرَى مِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، يُسَوِّي اللهُ تَعَالَى بِهَا مُدُنًا بِالأَرْضِ فَي أَقَلَّ مِنْ ثَانِيَةٍ، فَأَيْنَ هِيَ قُوَّةُ البَشَرِ وَقُدْرَتُهِمْ؟ وَأَيْنَ دِرَاسَاتُهُمْ وَأَبْحَاثُهُمْ، وَمُكْتَشَفَاتُهُمْ وَمُخْتَرَعَاتُهُمْ؟ هَلْ دَفَعَتْ للهِ أَمْرًا؟ أَوْ مَنَعَتْ عَذَابًا؟ أَوْ عَطَّلَتْ قُدْرَتَهُ؟ كَلَّا، بَلْ مَا شَاءَ اللهُ تَعَالَى كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطَّلَاقُ: 12].
([1]) تفسير ابن كثير (4/429).
([2]) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2552).
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا يَلِيقُ بِجَلَالِ رَبِّنَا وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، أَحْمَدُهُ وَأَشْكُرُهُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَخْلِصُوا لَهُ الدِّينَ، فَمَا خُلِقْتُمْ إِلَّا لِهَذَا، قَالَ قَتَادَةُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "مَنْ تَفَكَّرَ فِي خَلْقِ نَفْسِهِ عَرَفَ أَنَّهُ إِنَّمَا خُلِقَ وَلُيِّنَتْ مَفَاصِلُهُ لِلْعِبَادَةِ"([1]).
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: إِنَّ المؤْمِنَ الحَقَّ لَا يَغْتَرُّ بِجَاهِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ قُدْرَتِهِ، بل يَتَبَرَّأُ مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَيَسْأَلُ اللهَ الإِعَانَةَ فِي أُمُورِهِ، فَقُدْرَتُهُ تَعَالَى نَافِذَةٌ، فَإِذَا سَمِعَ المؤْمِنُ المؤَذِّنَ يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا الَّذِي تَدْعُونِي إِلَيْهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالفَلَاحُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا أَسْتَطِيعُ مَعَ ضَعْفِي القِيَامَ بِهِ إِلَّا إِذَا وَفَّقَنِي اللهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، إِنَّهُ يَطْلُبُ الإِعَانَةَ مِنَ اللهِ تَعَالَى حَتَّى فِي أُمُورِ دِينِهِ.
وَإِذَا احْتَارَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا يَدْرِي مَا الخَيْرُ لَهُ فِيهِمَا اسْتَخَارَ اللهَ تَعَالَى وَسَأَلَهُ بِقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ أَنْ يَخْتَارَ لَهُ الأَحْسَنَ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ"([2]).
وَإِذَا شَكَا وَجَعًا وَأَلَمًا عَلِمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُذْهِبَ وَجَعَهُ، وَأَنْ يُسَكِّنَ أَلَمَهُ، فَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَكَانِ الوَجَعِ، وَيَقُولُ: "أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ"([3]).
إِنَّ مَنْ قَوِيَ إِيمَانُهُ بِاللهِ تَعَالَى قَوِيَ يَقِينُهُ بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ، فَلَا يُعَظِّمُ وَلَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ تَعَالَى، لَا يُعَظِّمُ مَخْلُوقًا كَتَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى مَهْمَا كَانَ لَهُ مِنَ الإِنْجَازَاتِ وَالعَطَاءَاتِ، وَمَهْمَا شَاهَدَ مِنْ قُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَقْوَى وَأَقْدَرُ.
وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَظْلِمُ العِبَادَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ رَأَى قُدْرَتَهُ فَوْقَ قُدْرَتِهِمْ عَلِمَ أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ تَعَالَى فَوْقَ قُدْرَتِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لَا يَخَافُ الظَّلَمَةَ وَالمتَسَلِّطِينَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ رَأَى أَنَّ قُدْرَتَهُمْ فَوْقَ قُدْرَتِهِ عَلِمَ أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ تَعَالَى فَوْقَ قُدْرَتِهِمْ.
وَالمؤْمِنُ مَأْمُورٌ دَائِمًا أَنْ يَتَذَكَّرَ قُدْرَةَ اللهِ تَعَالَى وَقُوَّتَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ وَشُؤُونِهِ، وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي هُرَيْرَةَ t: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ تَحْتِ العَرْشِ، مِنْ كَنْزِ الجَنَّةِ؟ تَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، فَيَقُولُ اللهُ: أَسْلم عَبْدِي وَاسْتَسْلم"، أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ([4]).
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاطْلُبُوا مِنْهُ العَوْنَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَتَبَرَّؤُوا مِنْ حَوْلِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ، وَلُوذُوا بِحِمَى مَنْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللهِ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ([5]).
([1]) انظر: تفسر ابن كثير (7/419).
([2]) أخرجه البخاري (1162).
([3]) أخرجه مسلم (2202).
([4]) أخرجه أحمد في «المسند» (7966)، والحاكم في «المستدرك» (54).
([5]) الخطبة للشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل.