الخطبة الثانية بعنوان: البصير
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن سار على طريقته ونهجه، بمنك وعفوك وكرمك، أما بعد:
فيا عباد الله: ﴿اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أيها المؤمنون: إن أشرف العلوم العلم بالله، وقد أثنى الله على أهله، فقال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: 28].
والرسل -عليهم الصلاة والسلام- أجمعوا على التعريف بالله، والدعوة إلى عبادته، ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ [محمد: 19].
ويكون ذلك -يا عباد الله- بالكشف عن أسماء الله وعن معانيها، قال رسول الله ﷺ كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة t: "إن لله تسعةً وتسعين اسماً، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة"([1])، وأسماء الله لا يحصيها إلا ربنا جل وعلا، فمن أحصى هذا العدد، وفهم معناه، وتعبد الله به دخل الجنة.
نقف اليوم وإياكم -يا عباد الله- مع اسم من أسماء الله، وعلى أثر ذلك الاسم على المسلم، نقف على اسم البصير، قال الله جل وعلا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1]، وقال سبحانه: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ [الإسراء: 17].
أيها المؤمنون: إن للإيمان بهذا الاسم آثارا كثيرة، أذكر منها:
القيام بعبادة الله الله على الوجه الأكمل، فإذا علم المسلم وأيقن بأن الله يراه ويعلم سره ونجواه، ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7]، إذا علم المسلم وأيقن بأن الله يراه سيؤدي أركان الإسلام على الوجه المطلوب، سيحقق التوحيد، ويذهب إلى المسجد ويحافظ على صلاة الجماعة؛ لأنه يعلم أن الله يراه، وسيحاسبه على عمله وعلى تقصيره، وسيجازيه على عبادته، وسيخرج زكاة ماله، ويصوم رمضان، ويقوم الواجبات من بر للوالدين، وصلة للأرحام، ويجتهد في النوافل، ويسابق مع المسابقين، سيجتهد في المحافظة على صلاة الضحى، وعلى صلاة الليل، وعلى تفقد الفقراء والمحتاجين، وغير ذلك من وجوه البر، حتى يصل إلى درجة الإحسان التي قال عنها رسولنا ﷺ: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"([2]).
إذا وصل المسلم إلى هذه المرتبة -وهي أن يعبد الله كأنه يراه، ولا يكون ذلك إلا بمعرفة الله وأسمائه- فسيجني ثمرة أخرى وهي لذة العبادة، سيأنس بالله وبمناجاته، سيتلذذ بعبادة خالقه، سيحصل على هذه المنزلة العظيمة، إذا جلس بمفرده لا يراه إلا ربه الله يتلذذ بالدعاء، وبقراءة القرآن، والتسبيح والتهليل، وغير ذلك، يصل إلى هذه المرتبة العالية العظيمة حتى يأنس بخلوته أكثر من أنسه مع الناس؛ لأنه يناجي ربه، يتلذذ بتلك المناجاة، يتلذذ بتلاوة القرآن.
وإذا علم المسلم بأن الله يراه استمتع بعبادته، وتلذذ بها، وتزود منها، واجتهد أن يكون لديه من الأعمال ما لا يعلمه إلا خالقنا، ويكون عنده من الصدق والإخلاص وإخفاء العمل؛ لأنه تلذذ بتلك العبادة، تلذذ بتلك المناجاة التي بينه وبين خالقه.
ومن تلك الثمرات -يا عباد الله-: الحياء من الله، إذا علم المسلم بأن الله يراه استحى من ربه أن يقدم على معصية من معاصيه، يستتر عن الناس ولكنه لا يستطيع أن يستتر عن بصر الله وعن علم الله.
ذكر ابن رجب قصة عن رجل بأرض فلاة أراد امرأة، فقالت له: لا يرانا أحد؟ قال: لا يرانا إلا الكواكب -تأملوا معي يا رعاكم الله-، فقالت له المرأة: فأين مكوكبها([3])!
هذا المعنى أعني الشعور بأن الله يرى العبد هل لو استحضره الإنسان سيقدم ويتجرأ على الكبائر ويستتر هنا وهناك ويسافر يمنة ويسرة ويستتر عن الناس؟ وربُّ الناس يراه ويعلم سره ونجواه، الذي يخلو مع الشبكة العنكبوتية وينظر إلى الصور الإباحية ألا يستحي من الله؟ لماذا نستحي من الناس ولا نستحيي من الله؟ قال رسول الهدى ﷺ: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان"([4])، قال أهل العلم: نص على الحياء؛ لأن الحياء سبب لفعل بقية الشعب من الإيمان، فإذا استحى المسلم من خالقه سيؤدي العبادات، وسينتهي عن المحرمات، فعلى الإنسان أن يتقي الله.
أخي المسلم: إذا جلست مع نفسك تذكر بأن الله بصير، وأنه يراك، ويعلم سرك ونجواك، تلذذ بترك المعصية من أجل الله، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه.
أيها الآباء، أيها المربون والمعلمون: قولوا للأبناء بدلا من قول: (لا يراكم الناس)، قولوا: (لا يراكم الله وأنتم على هذه الحالة)، قولوا: (لا يراكم الله وأنتم مقصرون في طاعة الله)، لنجعل الأبناء ينشؤون على تعظيم الله وعلى مراقبته، لا نعودهم على الخوف من الناس وعلى مراقبة الناس، ولكن نربي الأولاد على مراقبة الله.
ومن ثمرات الإيمان -يا عباد الله- بهذا الاسم: الرضا والتسليم بقضاء الله.
أيها المظلوم، أيها المريض، أيها المهموم، أيها المحزون: الله يراك، يعلم معاناتك، ارفع يديك له، يرى حاجتك، يرى انكسارك، يرى ما في قلبك من الذل والخشوع، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
يعلم السر وأخفى، يرى جل وعلا وهو فوق عرشه النملة السوداء على الصخرة الملساء في الليلة الظلماء.
اطمئن فإنه يعلم ويرى ويشاهد كل ما يكون في هذا الكون، ولا يخفى عليه شيء، يرى ما في السماوات، يرى ما فوق السماوات، يرى ما تحت الثرى، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فارضَ بقضاء الله، وانكسر بين يديه، ولا تستعجل، وأبشر بالفرج والنصر من عند الله جل وعلا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
([1]) أخرجه البخاري (2736)، ومسلم (2677).
([2]) أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9).
([3]) انظر: جامع العلوم والحكم (1/409).
([4]) أخرجه البخاري (9)، ومسلم (35).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا يليق بجلاله وعظمته، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ.
يا عباد الله: أريد أن أنبه على مسألة فيمن يتأخرون عن صلاة الجمعة، أقول: إن الجمعة تدرك بإدراك ركعة، فإذا لم يدرك المسبوق ركعة مع الإمام فقد فاتته الجمعة فماذا يصنع؟ إذا سلم الإمام فعليه أن يصلي أربع ركعات ظهرا.
ولكن ينبغي أيضا التنبه إلى مسألة أن الإمام يصلي بعد الزوال؛ لأن بعض الأئمة يدخل للجمعة قبل زوال الشمس، فيصلي من فاتته الجمعة حينئذ نفلا؛ لأن من شروط الصلاة دخول الوقت فيصلي صلاة نفل، وإذا دخل وقت الظهر وزالت الشمس فإنه يصلي ظهرا؛ لأنك تلحظ أن بعض الناس يأتي والإمام قد قام من الركعة الثانية ثم يصلي ركعتين فقط، أقول: قد فاتته الجمعة، فيجب عليه أن يصلي أربع ركعات.
هذا، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ به بنفسه، فقال جل من قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.
اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية الصحابة أجمعين، وعنا معهم برحمتك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم من أرادنا أو أحدا من المسلمين أو بلادنا وبلاد المسلمين بسوء اللهم فأشغله بنفسه، اللهم أشغله بنفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره يا رب.
يا رب احفظ بلاد الحرمين وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أراد بلاد الحرمين بسوء يا قوي يا عزيز يا جبار يا قهار، اللهم أبطل كيده، واجعل تدبيره في تدميره وافضحه على رؤوس الأشهاد يا رب العالمين.
اللهم احفظ علينا عقيدتنا وديننا وأمننا ووفق ولاة أمرنا، اللهم وفق ولي أمرنا، اللهم سدد قوله وعمله، وبارك في جهوده يا حي يا قيوم.
اللهم يا حي يا قيوم فرج هم المهمومين من المسلمين، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم اجمع قلوبهم على الكتاب والسنة يا رب العالمين.
اللهم يا حي يا قيوم نسألك بأسمائك الحسنى كما جمعتنا في بيت من بيوتك أن تمن علينا بالاجتماع في جنات النعيم مع سيد الأولين والآخرين برحمتك يا أرحم الراحمين.
يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على طاعتك.
اجعلنا يا رب ممن يطول عمره، ويحسن عمله، وتحسن خاتمته يا أرحم الراحمين.
اللهم اعصمنا من فتن الشهوات والشبهات، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
اللهم أصلح شباب المسلمين، اعصمهم يا رب من الانحراف في الشبهات والشهوات، وأقر أعين آبائهم بصلاحهم يا حي يا قيوم.
عباد الله: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45]([1]).
([1]) الخطبة للشيخ عبدالعزيز الفايز.