اسم السميع

اسم كاتب الخطبة: ملتقى الخطباء، الفريق العلمي

الخطبة الثانية بعنوان: اسم الله السميع

الخطبة الأولى

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70-71]، أما بعدُ:

عباد الله: فإنه ما من مسلم موحد عرف الله تعالى حق معرفته إلا أحبه وعبده حق عبادته وعظمه حق التعظيم، لذا كان العلماء بالدين والشرع العارفون بالله حقًا وصدقًا هم أكثر الخلق توقيرًا لله وخشية منه سبحانه، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28].

ولعلنا في هذا المقام نتعرف على اسم الله السميع، وبعض معانيه، وثمرات الإيمان به، ونطوف في رحابه، ونتلمس ما ينبغي علينا فعله.

أيها المسلمون: إن لاسم الله السميع معنيين، فأما المعنى الأول فهو المدرك لجميع الأصوات مهما خفتت، فيستوي عنده السر والجهر، والإعلان والنجوى، وسمعُه تعالى صفة له لا يماثل أسماع خلقه.

ولا يعزب عن إدراكه تعالى مسموع وإن خفي، فيسمع السر وما هو أخفى من السر، قال عز من قائل: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7]، فقد وسع سمعه الأصوات كلها، فلا تختلف عليه أصوات الخلق ولا تشتبه، ولا يشغله منها سمعٌ عن سمع، بل يميز كل صوت مهما اختلفت اللغات وتنوعت الحاجات وكثرت الأصوات وتداخلت الكلمات والعبارات، ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك: 13].

وعن أبي موسى الأشعري t قال: كنا مع رسول الله t في غزاة، فجعلنا لا نصعد شرفًا، ولا نعلو شرفًا، ولا نهبط في واد إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدنا منا رسول الله ﷺ، فقال: "يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا"([1])، فإنه سبحانه وتعالى يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويسمع حمد الحامدين، ودعاء الداعين، وكلام المتكلمين.

أما المعنى الثاني لاسم الله السميع: فهو المستمع لعبـــاده إذا توجهوا إليـــه بالدعــاء والمستجيب لهم، وعليه قول رسول الله ﷺ: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن دعاء لا يسمع"([2])، قال السيوطي: "أي: لا يستجاب ولا يعتد به، فكأنه غير مسموع، يقال: اسمع دعائي، أي: أجبه؛ لأن غرض السائل الإجابة والقبول"([3])، ومنه قول الإمام في الصلاة: سمع الله لمن حمده، قال العلماء: "معنى سمع هنا أجاب، ومعناه أن من حمد الله تعالى متعرضًا لثوابه استجاب الله تعالى له وأعطاه ما تعرض له"([4])، ومنه كذلك قول عبد الله بن مسعود t: "لا يسمع الله من مسمِع، ولا مراء، ولا لاعب، إلا داع دعا يثبت من قلبه"([5]).

قال ابن القيم:

وهو السميع يرى ويسمع كل ما *** في الكــــــــون من سر ومن إعلانِ

ولكــــل صـــــوت منه سـمـع حاضـــر *** فالســـــر والإعــلان مـــــستــــــويــــانِ

والسمــع منــه واســـع الأصوات لا *** يـخــــفـــــى علــيه بعيـــــدها والــدانـي

أيها المؤمنون: إننا إذا آمنا باسم الله السميع وجب أن نؤمن أيضًا أن سمعه عز وجل مطلق لا تحجزه الحواجز، ولا تعيقه العوائق التي تعيق سمع البشر، قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]، فللبشر سمع لكنه قاصر لا يدرك جميع المسموعات، وسمعه هذا بجارحة هي الأذن، وهي معرضة للأمراض والآفات، بخلاف سمعه تعالى المنزه عن الفناء والعجز، وعن أن يخفى عليه أي صوت مهما خفت.

فقد سمع سبحانه وتعالى استغاثة يونس عليه السلام في ظلمة الليل البهيم، وظلمة البحر الخضم، وظلمة بطن الحوت، قال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ [الأنبياء: 87-88].

وسمِع عز وجل في عليائه شكوى امرأة لم تستطع سمعَها عائشةُ 1 من وراء ستار من القماش، وأنزل بذلك جبريلَ بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، تقول عائشة 1: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي ﷺ وأنا في ناحية البيت، تشكو زوجها، وما أسمع ما تقول، فأنزل الله: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة: 1]([6]).

وسمع سبحانه وتعالى وهب بن عمير حين اجتمع هو وصفوان بن أمية في الحجر، فتآمرا على قتل رسول الله ﷺ وأن يعول صفوان عيال وهب ويقضي دينه، لا يسمعهما مخلوق، فأطلع الله نبيه ﷺ على ذلك، فلما دخل وهب المسجد سأله رسول الله ﷺ: "ما أقدمك؟" قال: جئت أفدي أساراكم، قال: "فما شيء قلت لصفوان في الحجر: لولا عيالي ودين علي لكنت أنا الذي أقتل محمدًا بنفسي"، وكان ذلك سببًا في إسلام وهب([7]).

أيها المسلم: فلتحذر، فإن من سمع كل هذا يسمعك في سرك وإعلانك، وفي غدواتك وروحاتك، لذا عليك تجاه اسم الله السميع:

أن تحفظ لسانك عن كل ما حرم الله عز وجل من المسموعات كالغيبة والنميمة والكذب وشهادة الزور والسب واللعن، كذلك تحفظ أذنك عن سماع كل هذا، وعن سماع الغناء المحرم والفحش والخنا.

وأن نوقن تمام الإيقان ونؤمن تمام الإيمان أن الله تعالى يسمع جهرنا وعلانيتنا، وأن الألسنة والأسماع ستأتي تشهد يوم القيامة بما اقترفنا، ولا نكون كمن قصَّ علينا ابن مسعود t قصتهما قائلًا: "اجتمع عند البيت ثلاثة نفر، قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم، فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟ وقال الآخر: يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت: 22]"([8]).

 

([1]) أخرجه البخاري (6610)، ومسلم (2704).

([2]) أخرجه أبو داود (1548)، والنسائي (5467)، وابن ماجه (250).

([3]) انظر: شروح سنن ابن ماجه، عناية: رائد ابن أبي علفة (ص168).

([4]) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (4/193).  

([5]) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (606).  

([6]) أخرجه النسائي (3460)، وابن ماجه (188).

([7]) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (17/61/120).

([8]) أخرجه البخاري (4817)، ومسلم (2775).

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

أيها المسلمون: إن للإيمان باسم الله السميع عز وجل آثارًا طيبة كثيرة على المؤمنين به، منها ما يلي:

أنه يورثه التحري لما يقول ويسمع، فلا يسمع إلا ما يرضيه، ولا يقول ما يغضبه، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36].

وإذا تجذرت في القلب معاني اسم الله السميع توجه قلب العبد إلى الله عز وجل، فما دام تعالى يسمع دعاء من يدعوه ويجيبه فإن العبد سيكثر من التوجه إليه تعالى ومن طلب الحوائج، قال عز من قائل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186]، وقد علَّمنا نبينا ﷺ أن نتوجه إلى الله تعالى باسمه السميع العليم صباحًا ومساءً، فعن عثمان بن عفان t قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث مرات، فيضره شيء"([1]).

وإذا عرف العبد أن ربه سميع توسل إليه باسمه السميع، فالله عز وجل يحب من توسل إليه بأسمائه وصفاته، وهذا ما كان يصنعه الأنبياء أعرف الخلق بالله:

فهذا إبراهيم -عليه السلام- يقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم: 39].

وتوسل زكريا -عليه السلام- باسم الله السميع؛ ليرزقه الذرية الصالحة قائلًا: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران: 38].

وتوسلت زوجة عمران لربها ليتقبل منها ما في بطنها قائلة: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران: 35].

ودعوات الأنبياء لربهم واستجابته لهم في القرآن كثيرة، لا يتسع المقام لحصرها، فأجابهم سبحانه وتعالى فهو السميع العليم.

وكذلك من آثار الإيمان باسم الله السميع تنزيه سمع الله عز وجل عن مشابهة الحوادث، فلله تعالى سمع، وللمخلوقات سمع، لكن شتان ما بين سمعه تعالى وأسماع من سواه، فسمع الله محيط بجميع الأصوات، لا يخفى عليه شيء منها، وهو صفة لا تنفك عنه سبحانه، بخلاف أسماعنا التي هي بأداة قد تعطب، وهي لا تسمع إلا أشياء محدودة قاصرة، فسبحان الله وتعالى عن مشابهة المخلوقات.

وأخيرًا -عباد الله- لقد خلقنا الله عز وجل ضعفاء لا حول لنا ولا قوة، ثم وهبنا السمع والبصر منةً منه وتكرمًا، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78]، فحري بنا أن نكون من الشاكرين، فنستخدم نعم الله في مرضاته سبحانه.

فاللهم اجعلنا من الشاكرين السامعين المطيعين المخبتين.

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين([2]).

 

 

 

([1]) أخرجه أبو داود (5088)، والترمذي (3388)، وابن ماجه (3869).

([2]) الخطبة من ملتقى الخطباء، الفريق العلمي.

عدد الكلمات

2720

الوقت المتوقع

45 د


منبر الحسنى

تاريخ الطباعة/التصدير: 2025-11-14 16:17م