السميع
وفي هذا الاسم ثلاث خطب
الخطبة الأولى بعنوان: الله السميع
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله البصير التواب، الفتّاح الوهّاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له السميع الخبير، المتين القدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﷺ، وعلى آله وصحبه عدد قطر الندى وما تعاقب الإصباح والمساء، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فنحن في زمن تحقيقها، فإننا إنما خلقنا لعبادة الله سبحانه، وما عمرنا وحياتنا إلا مجموع الساعات واللحظات، ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [المائدة: 4].
عباد الرحمن: العبودية درجات، وأعلى مراتبها الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه، وهذه المرتبة طريق لرضا الرحمن، وفردوس الجنان، ونعيم القبر، والسلامة من سخط الله وعذابه، وإن مما يعين على الترقي في مرتبة الإحسان امتلاءَ القلب بمعاني الأسماء الحسنى واستشعارَها.
ووقفتنا اليوم مع اسم من الأسماء الحسنى، استشعاره يملأ القلب أُنساً بالله، وتذكره يبعث المؤمن على كثرة ذكر ربه، وقول كل كلمة طيبة، ويقيّد اللسان عن الغيبة والنميمة واللعن والسخرية والكذب وفحش الكلام، وعموم ذنوب اللسان "وَهَل يُكِبُّ النَّاسَ على وجوهِهِم في النَّارِ إلَّا حصائدُ ألسنتِهِم"([1])!
حديثنا عن اسم الله السميع الذي تكرر وروده في القرآن في خمسة وأربعين موضعاً.
جاءت خولة بنت ثعلبة 1 إلى النبي ﷺ تستفتيه في زوجها أوس بن الصامت t وهو ابن عم لها، والذي قال لها في حال غضب: أنتِ عليَّ كظهر أمي، وكان الظهار موجودا عندهم في الجاهلية، فجاءت تستفتي النبي ﷺ حيث إن زوجها أراد جماعها، وتشتكي الحال والمعاناة معه، فنزل صدر سورة المجادلة، تقول عائشة 1: الحمدُ للهِ الَّذي وسِع سمعُه الأصواتَ، لقد جاءت المجادِلةُ إلى النَّبيِّ ﷺ تُكلِّمُه وأنا في ناحيةِ البيتِ ما أسمعُ ما تقولُ، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [المجادلة: 1]([2]).
سبحانه السميع الذي يسمع جميع الأصوات على اختلاف اللغات وتنوع الحاجات، قد استوى في سمعه سر القول وجهره، ﴿سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ [الرعد: 10].
سبحانه السميع العليم، لا يشغله سمع عن سمع، ولا صوت عن صوت، بل لو قام الجن والبشر كلهم من أولهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها في صعيد واحد، وسألوا الله جميعا في لحظة واحدة وعرض كلٌ حاجته وتحدث كلٌ بلغته ولهجته لوسعهم سمعه أجمعين، دون أن يختلط عليه صوت بصوت أو لغة بلغة أو حاجة بحاجة، ففي الحديث القدسي: "يا عبادي، لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجِنَّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني، فأعطيتُ كل إنسانٍ مسألتَه، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقصُ المِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ البحرَ"([3]).
سبحانه السميع الذي يسمع وهو يعلم ما تكنّه الصدور.
سبحانه السميع، أنكر ظن مَن ظن مِن المشركين أن الله لا يعلم السر والنجوى، قال سبحانه: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف: 80].
إخوة الإيمان: والسمع المضاف لله عز وجل ينقسم إلى قسمين:
الأول: سمع يتعلق بالمسموعات وهو ما مر بنا، فيكون معناه: إدراك الصوت.
والقسم الثاني: سمع بمعنى الاستجابة، أي أن الله يستجيب لمن دعاه، ومنه قوله: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾ [آل عمران: 38]، وقوله تعالى على لسان الخليل: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم: 39]، ومنه قول المصلي: سمع الله لمن حمده.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود t قال: "اجتمع عند البيتِ ثلاثةُ نفَرٍ، قرشيان وثقفيُّ أو ثقفيان وقرشيُّ، قليلٌ فقهُ قلوبِهم، كثيرٌ شحمُ بطونِهم، فقال أحدُهم: أترون اللهَ يسمعُ ما نقولُ؟ وقال الآخر: يسمعُ إن جهَرنا، ولا يسمعُ إن أخفَينا وقال الآخرُ: إن كان يسمعُ إذا جهرنا فهو يسمعُ إذا أخفَينا، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: 22]"([4]).
وفي هذا السياق المبارك دلالة على أن فساد الاعتقاد بصفات الرب وأسمائه يترتب عليه الخسارة والردى، ولذا قال سبحانه في الآيتين بعدها: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ﴾ [فصلت: 23-24].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
([1]) أخرجه الترمذي (2616)، وابن ماجه (3973).
([2]) الحديث أخرجه أبو داود (2214)، والنسائي (3460)، وابن ماجه (188)، وأحمد في «المسند» (27319).
([3]) أخرجه مسلم (2577).
([4]) أخرجه البخاري (4817)، ومسلم (2775).
الخطبة الثانية
الحمد لله العلي الكبير، العلاّم الخبير، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فإن مما لا يخفى أن لله سمعا يليق بعظمته وجلاله، نثبت ذلك لله سبحانه من غير تحريف لمعناه ولا تشبيه بخلقه ولا تكييف لشكله وذاته، كما قال جل جلاله عن ذاته العلية: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
عباد الرحمن: وللإيمان باسم الله السميع واستشعاره آثار على المؤمن، فمن ذلك:
تعظيم الله وتوحيده وإجلاله ومحبته، فربنا الخلاق القدير السميع البصير العليم الخبير، والحمد له سبحانه أن كنّا مسلمين، نعبده وحده لا شريك له، بينما أعداد كبيرة من البشر يعبدون أوثانا، ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾ [مريم: 42].
ومن الآثار العظيمة للإيمان باسم الله السميع: الأنس بالله والتلذذ بذكره بل والإكثار من ذلك، تحرك شفتيك وأنت في السيارة أو البيت أو السوق أو المزرعة أو غيرها بذكر الله، بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والحوقلة والصلاة والسلام على نبيه والاستغفار.
ومن آثار امتلاء القلب باستحضار اسم الله السميع: لجم اللسان عن الآثام من الغيبة واللعن وفحش الكلام وغيرها، فكلماتك يسمعها الله سبحانه، نسأل الله كمال الإيمان والعصمة عن الآثام.
ومن آثار الإيمان باسم الله السميع: صلاة الليل وترتيل كلام الرحمن، تأمل قوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الشعراء: 217-220].
ومن آثار الإيمان باسم الله السميع: الحياء من الله أن يتلفظ العبد بالفحش والعصيان.
ومن آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم: الصدق عند الحديث واجتناب الكذب.
ومن آثار الإيمان باسم الله السميع واستحضاره: خفض الصوت عند الدعاء وزيادة اليقين، فهذا زكريا نادى ربه نداء خفيا بعد أن شاخ وكبرت سنه فبُشّر بيحيى، وهذا الخليل لم يرزق الذرية إلا على كِبَر، ونجَّى الله يوسف من كيد النسوة حين دعاه، ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [يوسف: 34].
ثم صلوا وسلموا على نبيكم، فقد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في محكم كتابه حيث قَالَ: ﴿إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا﴾ [الأحزاب: 56]([1]).
([1]) الخطبة للشيخ حسام بن عبدالعزيز الجبرين.