العليم والعالم

العليم

اسم كاتب الخطبة: الخطبة للشيخ سليمان بن صالح القوبع

الخطبة الثانية بعنوان: اسم الله العليم

الخطبة الأولى

﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ[سبأ: 1-2]، والحمد لله القائل: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ [فاطر: 11]، والحمد له القائل: ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ[سبأ: 3]، أحمده وهو العليم العالم بالسر والعلانية، فالسر عنده علانية، لا يخفى عليه شيء في السماوات ولا في الأرض.

فهو العليم أحاط علماً بالذي *** في الكون من سر ومن إعلانِ

وهو العليم بما يوسوس عبده *** في نفسه من غير نطقِ لسانِ

بل يستوي في علمه الداني *** مع القاصي وذو الإسرار والإعلانِ

فهو العليم بما يكون غدًا وما *** قد كان والمعلوم في ذا الآنِ

عباد الله: إن من أسماء الله التي ينبغي أن نتدبر معناها ودلالاتِها وآثارَها الإيمانيةَ اسمَ الله العليم.

والعليم: هو الذي أحاط علمه بكل شيء، يعلم دقائق الأشياء والأمور، وخفايا الضمائر والنفوس، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، ﴿وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ[إبراهيم: 38].

واسم الله العليم يدل على إحاطة علمه سبحانه، فهو الذي أحاط علمه بجميع المعلومات من ماض وحاضر، وظاهر وباطن، ومتحرك وساكن، وجليل وحقير، عَلِمَ بسابق علمه عددَ أنفاس خلقه، وحركاتِهم وسكناتِهم، وأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، اطلع سبحانه على سرائرهم، وكشف ما في ضمائرهم، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورَ[غافر: 19]، ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ[الأنعام: 59].

جاء في الصحيحين أن موسى -عليه الصلاة والسلام- قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل: أيُّ الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك -إنه الخضر عليه السلام-، فانطلق موسى إليه فلقيه، فمرت بهما سفينة فركبا فيها، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر بمنقاره في البحر نقرة أو نقرتين، فقال الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمُك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر([1]).

فسبحان من أحاط علمه المطلق بكل موجود، ووسع باطلاعه التام كل مخلوق، فلا يندى عن علمه شيء، ولا يعزب عن اطلاعه شيء، ولا يفوت عن إحاطته شيء، النجوى عنده جهر، والسر لديه علانية، والخافي لديه مكشوف، فسبحان ما يعلم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ[الحديد: 4].

معاشر المسلمين: إن من آثار الإيمان باسم الله العليم خوفَ الله وخشيته، والخوفُ من الله من أجل صفات أهل الإيمان، قال الله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]، وقال سبحانه: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الحج: 34].

إن العبد إذا أيقن أن الله تعالى عالم بحاله مطلع عليه دفعه ذلك إلى الاستقامة على أمره سبحانه.

إن من عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وأدرك عظمته وجبروته وسلطانه الذي لا يقهر وعينه التي لا تنام خاف منه حق الخوف، ومن كانت هذه هي حاله رأيته متيقظ القلب، يرتجف خشية وإشفاقاً، دائم المناجاة لربه، يستجير به ويستغيث استغاثة المفتقر الذليل، ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ[الزمر: 9].

إن من آثار الإيمان باسم الله العليم اليقينَ بشمول علم الله تعالى لكل شيء، فيثمر في قلب العبد غاية الذل لله مع غاية الحب.

إن المؤمن الحق هو الذي يسلم نفسه لربه منكسرا بين يديه، متذللا لعظمته، مقدما حبه سبحانه على كل حب، طمأنينةُ نفسه وقرة عينه وسكينة فؤاده أن يعفّر جبهته بالأرض ويدعو ربه رغبةً ورهبةً.

ولقد اتصفت ملائكة الرحمن بهذا الوصف، أعني به وصف التذلل والاستكانة، قال الله عنهم: ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم: 6]، وقال سبحانه: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ[الأنبياء: 28]، وقال ﷺ: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعَانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحقَّ وهو العلي الكبير"([2]).

إن أكمل الخلق عبودية أكملهم ذلا لله وانقيادا وطاعة له، ذليلٌ لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لقهره، ذليل لربوبيته وتصرفه، ذليل لإحسانه إليه وإنعامه عليه.

ومن آثار الإيمان باسمه العليم: طمأنينة قلب العبد أمام ما يقضيه الله من الأحكام القدرية كالمصائب والمكروهات، ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 51]، ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[الحديد: 22].

فيعلم العبد بأن الذي قدر الأقدار حكيم خبير عليم، لا يفعل شيئا عبثا، ولا يقدّر شيئا سدى، يعلم بأن الابتلاءات مكفراتٌ للذنوب، حاطةٌ للخطايا، وهي هدى ورحمة وصلوات من المولى الكريم للصابرين، ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ[البقرة: 155-157].

ومن الآثار: التسليم لأحكام الله الشرعية، وهذا التسليم يقتضي أن لا يتقدم المرء بين يدي الله ورسوله، فيقف عند حدود الله، مقبلا على طاعته، ملتزما بأمره ونهيه، مهتديا بقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[الأحزاب: 36]، وقوله: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[لنور: 51].

قال الحسن رحمه الله: "ما ضربت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدميَّ حتى أنظر أعلى طاعة أو معصية، فإن كان طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت"([3]).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

([1]) الحديث بطوله أخرجه البخاري (122)، ومسلم (2380).

([2]) أخرجه البخاري (4800).

([3]) أخرجه ابن أبي الدنيا في «الورع» (195).

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[الحديد: 3]، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أما بعد:

إن من آثار الإيمان باسم الله العليم الحرصَ على التزود من العلم الشرعي، ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة: 11]، ولا طريق إلى معرفة الله سبحانه والوصول إلى رضوانه إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يُهتدى في ظلمات الجهل وشبهات الفساد والشكوك.

وخير العلم ما نفع، وخير القول ما ردع، ومن تمام العلم استعماله، ومن تمام العمل استقلاله، فمن استعمل علمه لم يخلُ من رشاد، ومن استقل عمله لم يقصر عن مراد.

فيا طلاب العلم صونوا علمكم عن الدنايا وتواضعوا به، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"([1]).

وأتى النبيَّ ﷺ رجلٌ، فكلمه فجعل ترعد فرائصه -هيبة منه ﷺ-، فقال له: "هون عليك، فإني لست بمَلِك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد"([2]).

وخرج عمر t ومعه المعلى بن جارود العبدي، فلقيته امرأة من قريش، فقالت له: يا عمر، فوقف لها، فقالت: كنا نعرفك مدة عميرا، ثم صرت من بعد عميرٍ عمرَ، ثم صرت من بعدُ عمرَ أميرَ المؤمنين، فاتق الله يا ابن الخطاب، وانظر في أمور الناس، فإنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت، فقال المعلى: إيها يا أمة الله، لقد أبكيت أمير المؤمنين، فقال له عمر t: اسكت، أتدري من هذه ويحك؟ هذه خولة بنت حكيم 1 التي سمع الله قولها من سمائه، فعمر أحرى أن يسمع قولها ويقتدي به([3]).

تواضع لرب العرش علك تُرفع *** فما خاب عبدٌ للمهيمن يخضعُ

وداو بذكر الله قلبك إنه *** لَأشفى دواء للقلوب وأنفعُ

قال ربنا سبحانه ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83].

اللهم يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث ولا الدهور، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما يظلم عليه الليل ويشرق عليه النهار، اللهم اقذف في قلوبنا رجاءك حتى لا نرجو أحدا غيرك.

اللهم إنا نسألك إيمانا ثابتا، ويقينا صادقا حتى نعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتبت لنا.

اللهم لا نهلك وأنت رجاؤنا، احرسنا بعينك التي لا تنام، وبركنك الذي لا يرام، يا سامعا كلَّ شكوى، وعالما كلَّ نجوى، يا كاشف كربتنا، ويا مستمع دعوتنا، ويا راحم عبرتنا، ويا مقيل عثرتنا.

يا رب البيت العتيق اكشف عنا وعن المسلمين كل شدة وضيق، واكفنا والمسلمين ما نطيق وما لا نطيق.

اللهم فرج عنا وعن المسلمين كل هم وغم، وأخرجنا والمسلمين من كل حزن وكرب، يا فارج الهم، يا كاشف الغم، يا مجيب دعوة المضطر.

اللهم احفظ إيماننا، وأمِّن بلادنا، ووفق ولاة أمرنا لما فيه صلاح الإسلام وعز المسلمين.

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين([4]).

 
 

([1]) أخرجه مسلم (91).

([2]) أخرجه ابن ماجه (3312).

([3]) انظر العقد الفريد لابن عبد ربه (2/201).

([4]) الخطبة للشيخ سليمان بن صالح القوبع.

عدد الكلمات

2742

الوقت المتوقع

45 د


منبر الحسنى

تاريخ الطباعة/التصدير: 2025-11-14 16:18م