الخطبة الثانية بعنوان: اسم الله الرقيب
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله تُغْفَر الذنوب وتُمْحَى السيئات، وعلى أبوابه تُسْكَب العَبَرَات، وبطاعته تُنَال الخيرات والبركات، وبمعصيته تَحِلُّ الأزمات والنكبات.
والصلاة والسلام على خير البريات، سيد الخلق وإمام السعداء، وقائد الغر الميامين إلى رب العالمين، سيدنا محمد بن عبدالله ﷺ.
أيها الإخوة: نتعلَّم من رمضان ونحن صُوَّام بالنهار لا يَعلم حالَنا إلاَّ الله، لو شاء الواحد منا أن يتناول شيئًا من الطعام أو الشراب دون أن يَشعر به أحد لفَعل، ولا يمنعه من ذلك إلاَّ مراقبته لله عزَّ وجلَّ، فنتربى في الشهر الكريم على مراقبة الرقيب سبحانه وتعالى، وسنعيش مع اسم الله (الرَّقيب) في هذه الكلمات.
ورَد اسْمُ الله الرَّقيب في القرآن الكريم ثلاثَ مرَّات: في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، وقوله تعالى: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: 117]، وقوله تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ [الأحزاب: 52].
من هنا نحن في لجنة امتحان الحياة الدُّنيا والله هو الرقيب، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2]، ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: 7].
وفي امتحانات شهادات الدنيا قد يستطيع بعضهم أن يستغفل الرقيب ويغشَّ، ولكنْ فرقٌ بين رقيب الامتحانات التعليمية وبين والرقيبِ في امتحان الحياة الدنيا وهو الله عزَّ وجلَّ.
صفات الرقيب سبحانه وتعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ﴾ [سبأ: 2]، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد: 4]، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7]، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19].
قال ابن عباس 5 في قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]: "هو الرَّجُلُ يَكُونُ فِي القَوْمِ، فَتَمُرُّ بِهِمُ المرأة فَيُرِيهِمْ أنَّهُ يَغُضُّ بَصَرَهُ عَنْها، وإذا غَفِلُوا لَحَظَ إلَيْها، وإذا نَظَرُوا غَضَّ بَصَرَهُ عَنْها، وقَدِ اطَّلَعَ اللَّهُ مِن قَلْبِهِ أنَّهُ ودَّ أنَّهُ يَنْظُرُ إلى عَوْرَتِها"([1]).
وقال ابن عباس 5 أيضا: "يعلم الله تعالى من العين في نظَرِها هل تريد الخيانة أم لا"، وكذا قال مجاهد وقتادة([2]).
وقال مجاهد: "هي مُسارَقَة نظَر الأعين إلى ما نهى الله عنه"([3]).
فالله سبحانه يُخبر عن علمه التامِّ المحيط بجميع الأشياء، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، دقيقها وعظيمِها؛ لِيَحذَر الناس عِلْمَه فيهم، فيستحيوا منه تعالى حقَّ الحياء، ويتَّقوه حقَّ تقواه، ويراقبوه مراقبة مَن يعلم أنه يراه، فإنه عزَّ وجلَّ يعلم العين الخائنة، وإن أبدَتْ أمانة، ويعلم ما تنطوي عليه خَبايا الصُّدور من الضمائر والسرائر.
وقال ابن عباس 5 في قوله تعالى: ﴿وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]: "يعلم إذا أنت قدرت عليها هل تَزْني بها أم لا؟"([4])، وقال السُّدي: "﴿وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19] أي: من الوسوسة"([5]).
ويقول تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: 59]، فإذا كان ورق الأشجار والحبُّ في الأرض مراقَبًا فبالأجدر ابن آدم.
﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 13-14]، ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7]، عِلْمه للسرِّ والخفاء يَستوي مع علمه للجَهْر والعلانية.
كلُّنا نعلم ولكن من يعمل؟ مَنْ يحسب لِنَظر الله حسابًا؟ من يراقب الله؟ من يستحي من نظر الله إليه؟
قال أبو جهل: إنْ رأيتُ محمدًا يصلِّي لأَطَأنَّ على عنقه، فأنزل الله هذه الآيات تعَجُّبًا منه: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: 9-14]([6]).
قال ابن كثير -رحمه الله-: نزَلَت في أبي جهل -لعَنَه الله- توَعَّد النبيَّ ﷺ على الصلاة عند البيت، فوعَظَه الله تعالى بالَّتي هي أحسن أوَّلاً، لهذا قال: ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾، أي: فَما ظَنُّكَ إنْ كانَ هَذا الَّذِي تَنْهاهُ عَلى الطَّرِيقِ المسْتَقِيمَةِ فِي فِعْلِهِ، أو ﴿أمَرَ بِالتَّقْوى﴾ بِقَوْلِهِ، وأنْتَ تَزْجُرُهُ وتَتَوَعَّدُهُ عَلى صِلاتِهِ، ولِهَذا قالَ: ﴿ألَمْ يَعْلَمْ بِأنَّ اللَّهَ يَرى﴾ أي: أما عَلِمَ هَذا النّاهِي لِهَذا المهْتَدِي أنَّ اللَّهَ يَراهُ ويَسْمَعُ كَلامَهُ، وسَيُجازِيهِ عَلى فِعْلِهِ أتَمَّ الجَزاءِ([7]).
يا كلَّ مَن تُسوِّل له نفسُه أن يرتكب محرَّمًا، يا من تغشُّون في تجارتكم، يا من تُغافلون أصحاب الأعمال: لو ترَبَّينا على هذا المعنى فستتغيَّر أحوالنا ومجتمعاتنا، ويكون اسْمُ (الرَّقيب) أفضلَ وأقْوى للمجتمع من ألف شُرْطي، ومن ألف كاميرا تراقب النَّاس في المصانع والطُّرق وغيرها.
يا أطباء، يا مهندسين، يا طُلاَّب، يا حِرَفيّين: ماذا سيحدث في مجتمعنا إن نحن عِشْنا مع الرَّقيب؟
يا إعلام، يا شباب: فلْنَنوِ أن نحيا بهذا الاسم، سأعيش بهذا الاسم، لن أغشَّ، لن أخدع، ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: 14].
كان شيخٌ يعظِّم غلامًا ويقرِّبه دون بقيَّة تلاميذه، فلما شَكَوا ذلك أراد أن يُعطيهم درسًا، فأعطى كلَّ واحد منهم طائرًا، وقال: لِيَذْهب كلُّ واحد منكم إلى حيثُ لا يراه أحد، ويذبح طائِرَه، فذهب الجميع وعادوا وقد ذبحوا الطُّيور، إلاَّ هذا الغلام، واعتذر بأنه كلَّما ذهب إلى مكان وجد مَن ينظر إليه ويَطَّلع عليه، وجَد الله مُراقِبَه، ومن هنا قال الشيخ: لهذا أقرِّبه؛ لِمَا يحمل من يقين في قلبه، وترجمة عمَليَّة لما يَعْتقده.
روى أبو هريرة t أن النبي ﷺ كان بارزًا يوْمًا للنَّاس فأتاه جِبْريل، فقال: ما الإيمان؟ قال: "الإيمان أنْ تُؤْمن بالله، وملائكته، وبلقائه، ورسله، وتؤمن بالبَعْث"، قال: ما الإسلام؟ قال: "الإسلام أن تعْبد الله ولا تشْرِك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفْروضة، وتصوم رمضان"، قال: ما الإحْسان؟ قال: "أنْ تعْبد الله كأنك تراه، فإنْ لمْ تكنْ تراه فإنه يراك"([8]).
وعن نَافِع مولى ابن عمر 5 قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ 5 فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ أَصْحَابٌ لَهُ، فَوَضَعُوا سُفْرَةً لَهُمْ، فَمَرَّ بِهِمْ رَاعٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: هَلُمَّ يَا رَاعِي فَأَصِبْ مِنْ هَذِهِ السُّفْرَةِ، فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: هَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنَا شَاةً مِنْ غَنَمِكَ نَجْتَزِرُهَا نُطْعِمُكَ مِنْ لَحْمِهَا مَا تُفْطِرُ عَلَيْهِ وَنُعْطِيكَ ثَمَنَهَا؟ قَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِي، إِنَّهَا لِمَوْلايَ، قَالَ: فَمَا عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ لَكَ مَوْلاكَ إِنْ قُلْتَ: أَكَلَهَا الذِّئْبُ؟ فَمَضَى الرَّاعِي وَهُوَ رَافِعٌ إِصْبَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: فَأَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَ نافع: فَلَمْ يَزَلِ ابْنُ عُمَرَ 5 يَقُولُ: قال الراعي: فَأَيْنَ اللَّهُ؟ فَمَا عَدَا أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَبَعَثَ إِلَى سَيِّدِهِ فَاشْتَرَى مِنْهُ الرَّاعِيَ وَالْغَنَمَ، فَأَعْتَقَ الرَّاعِيَ وَوَهَبَ لَهُ الْغَنَمَ([9]).
مراقبته لله كانت له نجاةً في الدُّنيا من ذُلِّ العبودية، وسَتكون نجاةً له إن شاء الله من ذُلِّ النار يوم القيامة.
وهذا عمر بن الخطاب t كان يتجوَّل ليلاً كعادته؛ للاطمئنان على رعيَّته، فسمع صوت بائعة اللَّبن وهي تقول لابنتها: يا بُنيتي، ضعي الماء على اللَّبن، فقالت الفتاة: يا أُمَّاه، ألم تعلمي أنَّ أمير المؤمنين قد نهَى عن خَلْط اللَّبن بالماء؟ قالت: يا بُنيَّتي، عمر بن الخطاب لا يرانا الآن، فقالت الفتاة: يا أمَّاه، إنْ كان عمر لا يرانا، فرَبُّ عمر يرانا، فوضَع عمر t علامة على البيت وذهب لأولاده فجمعهم، فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه؟ ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه الجارية، فقال عبد الله: لي زوجة، وقال عبد الرحمن: لي زوجة، وقال عاصم: يا أبتاه، لا زوجة لي فزوجني، فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم، ويشاء الله أن يأتي مِن نَسْلها عُمر بن عبدالعزيز، ويكون بركة مقولتها: "إن كان عُمر لا يرانا فإنَّ الله يرانا"، ويكون الخليفة الخامس، وصاحب الأفضال العظيمة، وينتشر العدل بامرأة راقبَت الله في تصرُّف لها([10]).
وهناك قصَّة لرجل، وقصته كُتِبت في عدَّة كتب، كان قد ظُلم في مال، وكان مالاً كثيرًا، والرجل لم يتحمَّل هذه الصَّدمة، فمَرِض، ويبدو أنه كان مرض الموت، فنادى ابنه الكبير، وقال له: إنْ أنا مت فمُرَّ بجنازتي من أمام دكَّان الرجل الذي ظلَمَني وأكَل مالي، وأعْطِه هذه الرِّسالة، واقرأها أمامه، وأنت تسير بجنازتي.
ومات الرَّجل، ونفَّذ ابنُه الوصية بأنْ مَرَّ من أمام دكان هذا الرجل، وقال له: أرسَلَ لك الميت هذه الرسالة، كتَبَها قبل أن يموت، ففتح الرِّسالة وقرأ: إني قد ذهبتُ إلى الله، وهو يعلم ما فعلتَه بي، فهو يراني ويراك، وأنت ستأتي عن قريب، موعدنا يوم القيامة لأستردَّ حقي.
وقالت امرأة من العرب ذات عقل ودين: "سبحانك إلهي، إمْهالُك المذْنبين أطمَعَهم في حُسْن عفوك عنهم، سبحانك إلهي، لم يزل قلبي يشهد برضاك لمن نال عفوك، سبحانك إلهي، تفضُّلاً منك وامتنانًا على خلقك"([11]).
وروي أن عمرt مر بامرأة وهي في بيتها، وتقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه *** وطال علي أن لا خليل ألاعبه
فــــوالله لـــــــولا خـــشـــيــة الله وحده *** لـحـــرك مــن هـذا السرير جوانبه
فلما أصبح عمر أرسل إلى المرأة، فسأل عنها، فقيل: هذه فلانة بنت فلان، وزوجها غاز في سبيل الله، فأرسل إليها امرأة، فقال: كوني معها حتى يأتي زوجها، وكتب إلى زوجها فأقفله، ثم ذهب إلى حفصة بنته، فقال لها: يا بنية، كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت له: يا أبه، يغفر الله لك، أمثلك يسأل مثلي عن هذا؟ فقال لها: إنه لولا أنه شيء أريد أن أنظر فيه للرعية ما سألتك عن هذا، قالت: أربعة أشهر، أو خمسة أشهر، أو ستة أشهر، فقال عمر t: يغزو الناس يسيرون شهرًا ذاهبين، ويكونون في غزوهم أربعة أشهر، ويقفلون شهرًا، فوقَّت ذلك للناس من سنتهم في غزوهم([12]).
وعن أبي عبيدة العصفري قال: لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض (أي: الغنائم) أقبل رجل بحُقٍّ معه (أي: وعاء صغير)، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال الذين معه: ما رأينا مثل هذا قط ما يعدله ما عندنا ولا يقارنه، فقالوا له: هل أخذت منه شيئًا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأنًا، فقالوا: من أنت؟ فقال: والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم لتقرظوني، ولكن أحمد الله وأرضى بثوابه، فأتبعوه رجلًا حتى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس([13]).
وعنْ عامر الشعبي قال: سمعْت النُّعْمان بن بشيرٍ 5 وهو على المنْبر يقول: أعطاني أبي عطيَّةً، فقالتْ عمْرة بنْت رواحة 1: لا أرْضى حتىَّ تُشْهد رسولَ الله ﷺ، فأتى رسولَ الله ﷺ فقال: إنِّي أعطيْتُ ابني مِنْ عمْرة بنْت رواحة عطيةً، فأمرَتْني أنْ أُشْهدك يا رسول الله، قال: "أعطيْتَ سائر ولدك مثْلَ هذا؟"، قال: لا، قال: "فاتَّقوا الله، واعْدلوا بيْن أولادكم"، قال: فرجع، فردَّ عطيته، وفي رواية لمسلم قال: "فلا تُشْهِدْني إذن، فإني لا أشْهد على جوْرٍ"([14]).
انظروا ماذا فعَلَت الزوجة؟ عرفت أن الله رقيب عليهم، فطلبت من زوجها أن يُشهِد رسولَ الله ﷺ.
وهذا رجل تزوَّج سرًّا على امرأته، وحَدَث أنْ عَلِمت هذه المرأة أنَّ زوجها قد تزوَّج عليها فلم تُواجِهْه، وكتمَتْ معرفتها بسرِّه، وكانت قد تيقَّنَت من هذا الأمر، ومات هذا الرَّجل وترك ميراثًا ضخمًا، فأرسلت المرأة لضرَّتها نصيبَها في الميراث، ولكن الأصعب من ذلك أنَّ الزوجة الثانية رفَضَت أن تأخذ هذا المال؛ لأنَّ زوجها كان قد طلَّقها قبل وفاته.
ومن النماذج التي عاشت في ظلال الرقابة لله ماحكاه الأصمعي أن أعرابيا قال: خرجت في ليلة ظلماء فإذا أنا بجارية كأنها علم، فأردتها، فقالت: ويلك، أما لك زاجرٌ من عقل إذ لم يكن لك ناهٍ من دين؟ فقلت: إيه، والله ما يرانا إلا الكواكب، فقالت: وأين مكوكبها([15])!
ماذا لو أنك في عمل وأُخبرتَ أن صاحب العمل قد وضع كاميرات للمراقبة، كيف يكون الحال؟ وكيف لو أن السماء كلها كاميرات مراقبة؟ وكيف لو فوجئت أنك كنت مراقبًا دون أن تعلم، وتذكَّرت ما قد صنعت؟
عباد الله: عين الله لا تنام، ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ [النساء: 108].
وعن عبدالله بن عُمر 5 قال: أخذ رسول الله ﷺ ببعْض جسدي، فقال: "اعْبد الله كأنَّك تراه، وكنْ في الدُّنْيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيلٍ" أخرجه الإمام أحمد([16])، ورواه البخاري بلفظ: "كنْ في الدنْيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيلٍ"، وكان ابْن عمر 5 يقول: إذا أمْسيْتَ فلا تنْتظر الصباح، وإذا أصْبحْت فلا تنْتظر المساء، وخُذْ مِن صِحَّتك لمرضك، ومن حياتك لموْتك([17]).
وعن عبدالله بن مسعودٍ t قال: قال رسول الله ﷺ: "استحيُوا من الله حقَّ الحياء"، قال: قلنا: يا رسول الله، إنَّا لنستحيِي والحمد لله، قال: "ليس ذاك، ولكنَّ الاستحياء من الله حقَّ الحياء أن تَحفظ الرَّأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتتذكَّر الموت والبِلَى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدُّنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقَّ الحياء"([18]).
وقال معاذ بن جبلٍ t: يا رسول الله، أوصني، فقال: "اعبُد الله كأنَّك تراه، واعدد نَفسك من الموتى، واذكر الله عزَّ وجل عند كل حجَرٍ وعند كل شجرٍ، وإذا عَملت سيِئةً فاعمَل بجنبها حسنةً، السر بالسر، والعلانية بالعلانية"، ثم قال: "ألا أُخبرك بأَمْلك الناس من ذلك؟"، قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بِطَرَف لسانه، فقلت: يا رسول الله، كأنَّه يتَهاون به، فقال النبي ﷺ: وهل يَكُب الناسَ على مناخرهم في النَّار إلاَّ هذا؟"، وأخذ بطرَف لسانه([19]).
وعن رجل من النَّخع قال: شهِدتُ أبا الدَّرداء t حين حضرَته الوفاةُ قال: أحدِّثكم حديثًا سمعتُه من رسول الله ﷺ، سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: "اعبُدِ الله كأنك تراه، فإن كنتَ لا تراه فإنه يراك، واعدُد نفسك في الموتى، وإياك ودعوةَ المظلوم؛ فإنها مستجابة، ومن استطاع منكم أن يشهد الصَّلاتين العشاء والصُّبح، ولو حبوًا فليفعل"([20]).
ومع أن الله سبحانه وتعالى رقيب مطلع على خلقه فقد وكل بالناس ملائكة يراقبونهم ويحصون عليهم أعمالهم، ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]، ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49]، ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: 29].
﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف: 80]، أيْ: ما يُسرُّونه في أنفسهم ويتناجَوْن به بينهم، ﴿بلى﴾ نَسْمع ونعلم، ﴿ورسُلنا لديهم يكتبون﴾ أي: الحفَظَة عندهم يكتبون عليهم.
ورُوي أنَّ هذه الآية نزلت في ثلاثة نفَر، كانوا بين الكعبة وأستارها، فقال أحدهم: أتَرَون أنَّ الله يَسمع كلامنا؟ وقال الثاني: إذا جهَرتُم سَمِع، وإذا أسررتم لم يَسمع، وقال الثالث: إن كان يَسمع إذا أعلنتم فهو يسمع إذا أسرَرْتم([21]).
فاعمل حسابًا لمن لا يُفارقونك ليلاً ولا نهارًا، ويُحْصون عليك الصغير والكبير، والفتيل والقِطْمير، ويَعُدُّون عليك أنفاسك، ويسجِّلون همساتك ولمساتك، وسَكناتك وحرَكاتك.
([1]) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (18428) معلقاً.
([2]) انظر: تفسير ابن كثير (7/137).
([3]) انظر: تفسير القرطبي (15/303).
([4]) انظر: تفسير ابن كثير (7/137).
([5]) انظر: تفسير ابن كثير (7/137).
([6]) انظر: تفسير عبدالرزاق (3/443).
([7]) تفسير ابن كثير (8/438).
([8]) أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9).
([9]) انظر: التبصرة لابن الجوزي (2/250).
([10]) القصة أخرجها الآجري في «أخبار أبي حفص عمر بن عبدالعزيز» (ص47).
([11]) انظر: صفة الصفوة لابن الجوزي (2/505).
([12]) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (2463).
([13]) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (26/12).
([14]) أخرجه البخاري (2587)، ومسلم (1623).
([15]) انظر: صفة الصفوة لابن الجوزي (2/505).
([16]) أخرجه أحمد في «المسند» (6156).
([17]) أخرجه البخاري (6416).
([18]) أخرجه الترمذي (2458).
([19]) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (20/175/374).
([20]) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (10060).
([21]) انظر: تفسير الطبري (20/653).
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فعن نوَّاس بن سمْعان t قال: أقمْتُ مع رسول الله ﷺ بالمدينة سنةً، ما يمْنعني من الهجْرة إلاَّ المسْألةُ، كان أحَدُنا إذا هاجر لَمْ يسْألْ رسول الله ﷺ عن شيء، قال: فسألْتُه عن البِرِّ والإثْم، فقال رسول الله ﷺ: "البِرُّ حُسْن الخُلُق، والإثْم ما حاك في نَفْسك، وكَرِهْت أنْ يطَّلِع عليْه الناسُ"([1]).
وذلك أن النفس السَّويَّة بطبيعتها جبَلَها الله تعالى على الفطرة التي فطر الناس عليها، تطمئنُّ للخير والمعروف، وتضطرب للشَّر والمنكَر والسُّوء، فتُسَرُّ لما يُرضي الله، وتَحزن وتضيق لما يُغضب الله، رزَقَنا الله وإيَّاكم نفْسًا مطمئنَّة بِطاعته.
عباد الله: حتى أعضاؤنا التي هي جزء منا فإنها بمثابة الرقيب، فإنها ستشهد يوم القيامة: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس: 65]، ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: 24]، ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [فصلت: 21-23].
فالشهود عليك من نفْسِك يوم تتكلَّم الأعضاء، ويخرس اللِّسان، أعضاؤك تسجل عليك ما تقترفه من الذُّنوب والمعاصي، اليد تسجِّل السَّرقات، والعين تسجِّل النَّظرات، والرِّجْل تسجِّل الحركات والسَّكنات، والبطن يصوِّر أكل الحرام، والفَرْج يسجِّل الفاحشة، والعياذ بالله.
كل الناس تتجَمَّل في الظاهر، ولكن لا يَظهر للناس إلا القليل، كجبَل الجليد الظَّاهرُ منه فوق الأرض عِشْرون بالمائة، وتحت الأرض ثمانون بالمائة، وأكثر الناس يحرص على نسبة الـعشرين التي هي الظَّاهر، ونحن نريد أن نعمل على تجميل الباطن، ولن يتحقَّق ذلك إلاَّ مع اسم الله (الرقيب).
وأنت مع الناس تحاول أن تَشرح لهم قصْدَك أو نَيَّتك إن كان لك عندهم حاجة، لكن مع الرَّقيب الذي يعرف عنك كلَّ شيء لا تحتاج إلى شَرْح أو تفصيل.
مع الله الرَّقيب أنت في غِنًى عن الشَّرح، فهو يعرف سِرَّك وحالك، وهو معك ومُطَّلِع عليك.
عباد الله: مراقبة الله تجعلك سعيدًا، وتحميك يوم القيامة، الله مُراقبِي، الله ناظِرٌ إليَّ، الله شهيدٌ عليَّ.
لو عِشْنا مع اسم (الرقيب) صلح داخلنا وظاهرنا، فإن أخطأتُ ندمتُ واستغفرتُ؛ لأنَّ الله يراني، وإن فعلْتُ حسنة فرحتُ؛ لأنَّه أيضًا يراني.
كيف حال بلادنا إذا عاشت بهذا الاسم؟
البِلاد تَلْجأ إلى القوانين من أجْل مراقبة الناس، وتصحيح أفعالهم، ولكن لو استطَعْنا أن نجعل الوازع الدَّاخلي يَعْلو عند الناس باسْم الله الرَّقيب فسيتغيَّر الأمر.
المدارس وما يحدث فيها، العلاقات الاجتماعيَّة، المشاكل الزَّوجية، لو أنَّ كلَّ هؤلاء اختاروا العيش باسْم الله الرقيب، ماذا سيحدث للمجتمع؟
أنا أرجو من كلِّ مُسْلم أن يجلس مع نفْسِه ويحاسبها، ويقول: سأعيش مع الرقيب في كلِّ لمحة، سأركِّز في كلِّ خطوة ولحظة ولمحة، ليرى كيف ستكون النتيجة.
أسأل الله أن يُعيننا، وأن يرزقنا خشيته في السر والعلن.
والحمد لله رب العالمين([2]).
([1]) أخرجه مسلم (2553).
([2]) الخطبة للشيخ عبدالوهاب عمارة.