الخطبة الثانية بعنوان: الدر الثمين في فقه اسم الله المهيمن
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، هو أخشى الناس لربه وأتقى، دلَّ على سبيل الهدى، وحذَّر من طريق الردى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه معالم الهدى، ومصابيح الدجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى، أما بعد:
عباد الله، فأوصي إخواني ونفسي والناس أجمعين بوصية رب البريات التي أودعها آخر كتبه وأعظم حججه، أوصيكم بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، وفي السراء والضراء، وفي الرضا والغضب، فاتقوا الله أينما كنتم، وكيف ما كنتم.
عباد الله: إن الله عز وجل له الأسماء الحسنى والصفات العلا التي بفقهها وفهمها يستقيم إيمان العبد، ويصلح له أمر دينه ودنياه وآخرته، والمتدبر في أسماء الله وصفاته يلمح أمرا عجيبا حقا، وهو أن بعض أسماء الله عز وجل قد وردت في القرآن مرة واحدة وفي آية واحدة، وهي آية سورة الحشر: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ﴾ [الحشر: 23]، وأما في السنة فلم تثبت -والله أعلم- في حديث مرفوع، في حين أن معظم أسماء الله عز وجل قد وردت في أكثر من موضع في القرآن أو السنة، فما السر وراء إفراد هذه الأسماء تحديدا وتَكرار غيرها؟
بادئ ذي بدء لا بد من الإقرار بعجزنا البشري عن العلم التام بحكمة الله عز وجل ومراده على وجه اليقين، بل نقول كما قال الله عز وجل: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ﴾ [آل عمران: 7]، ولكن يبقى لنا التدبر والتأمل والتفكر في حكمته جل وعلا في هذه الآية الفريدة، وفي معاني هذه الأسماء التي لم تذكر سوى مرة واحدة في كتاب الله؛ لنستخرج ما فيها من كنوز ومن درر تنفعنا في الدنيا والآخرة.
وحديثنا اليوم -بمشيئة الله- عن اسم الله "المهيمن"، والمهيمن اسمٌ مشتق للموصوف بالهيمنة، وأصل الهيمنة السيطرة على الشيء وحفظه والتمكن منه، والعرب تطلق "المهيمن" على القائم على الأمر والمسيطر عليه.
أما المهيمن كاسم وصفة لله جل وعز فللعلماء أقوال في معناه، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: وفي المهيمن أربعة أقوال: أحدها: أنه المؤيمن، إلا أن الهاء بدل من الهمزة، ومعناه: الأمين، والثاني: أنه الشاهد، والثالث: أنه المصدق فيما أخبر. والرابع: أنه الرقيب الحافظ([1]).
والمهيمن اسم لمن كان موصوفاً بمجموع صفات ثلاث: العلم بأحوال الشيء، والقدرة التامة على تحصيل مصالح ذلك الشيء، والمواظبة على تحصيل تلك المصالح؛ وهذا لا يكون لغير الله.
ويقول الشيخ السعدي: "المهيمن المطلع على خفايا الأمور، وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علماً"([2])، فهو يعلم سرك وعلانيتك، ويعلم الصالح لك من الفاسد، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ [البقرة: 220].
ومن خلال هذا العرض لكلام أئمتنا وعلمائنا -رحمهم الله- يتضح لنا أن اسم الله المهيمن يعني المسيطر على كل الأمور، وسيطرته عن علم شامل، وقدرة تامة، فهو رقيب شهيد، عليم قادر.
فالله عز وجل هو المهيمن على عباده، فهو فوقهم بذاته، له علو القهر والشأن، ملك على عرشه، لا يخفى عليه شيء في مملكته، يعلم جميع أحوالهم، ولا يعزب عنه شيء من أعمالهم، هو القاهر فوقهم، فهو محيط بالعالمين، على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يعجزه شيء، ولا يفتقر إلى شيء، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
فالله المهيمن يملك العلم الكامل، ويملك القدرة الكاملة، لا نهاية لمتعلقات علمه، ولا نهاية لمتعلقات قدرته، وليس في الكون جهة أخرى تشاركه في الحكم، قال سبحانه: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَــهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَــهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: 91]، وقال سبحانه: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: 22]، ومعناه: أنه لا يوجد جهة أخرى تنافس أو تسيطر أو تقاوم أو تنازع أو تفسد؛ لأن التصرف لله وحده، له الأمر من قبل ومن بعد، لذلك إذا اتكلت على المهيمن فهو الذي يعلم كل شيء، وقادر على كل شيء، وليس كمثله شيء.
ومن ثم -عباد الله- كان اسم الله المهيمن من الأسماء الجامعة الشاملة للكثير من الصفات والأسماء الأخرى، حيث إنه من لوازم ومتعلقات هيمنة الله على خلقه ما يلي:
أولا: العلم التام الشامل بكل شيء، إذ إن من معاني المهيمن الرقيب الشهيد الذي يعلم السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7]، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم الظاهر والباطن، ويعلم ما تعلم وما لا تعلم، وما تخفي وما تعلن، ويعلم دقائق الأمور، ويعلم سريرتك وعلانيتك، يعلم نياتك وخواطرك، قال سبحانه: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ [سبأ: 2]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفي عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران: 5]، وقال سبحانه: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾ [غافر: 19]، علم شامل ومحيط لا نهاية له، ولا حَدَّ معقول لتقديره، بل هو فوق كل تصور، وذلك بجميع تفاصيل خلقه، مهما دق منها أو صغر.
ثانيا: القدرة الكاملة الشاملة، فهو يعلم ويقدر، والقدرة لها معنيان: قدرة علم، وقدرة قوة.
البشر قد يعلمون لكنهم ضعفاء لا يستطيعون فعل شيء، لأن تسيير الأمور ليس بأيديهم، كما قد يكونون أقوياء لكنه يتخلّف عنهم العلم بالأمور، هكذا بنو البشر، لكن الله عز وجل المهيمن لا يعجزه فعل شيء؛ لأنه قوي، ولا يغيب عن علمه شيء؛ لأنه محيط فوق الجميع، قال تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10]، وقال: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21]، فهو يعلم ويحقق مصالح من يهيمن عليهم تحقيقاً تاماً عن طريق علم دقيق، وقدرة بالغة، ثم المصير بيده، والمآل إليه.
ثالثا: الإحاطة التامة والكاملة والشاملة بجميع خلقه، فمن لوازم المهيمن الإحاطة بكل شيء يقع في ملكوته ومن خلقه، ولترسيخ هذا المعنى كان النبي ﷺ إذا سافر، كما في حديث ابن عمر 5 يقول: "اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ"([3])، فهذه الصفة لا تتحقق في بشر أبدا، أن يكون معك في السفر، وفي الوقت نفسه يكون خليفتك في بيتك وأهلك وأولادك، فهذا أمر مستحيل في حق المخلوق، لذلك فهاتان الصفتان لا تجتمعان إلا لله عز وجل، أن يكون معك بالحفظ والرعاية والتوفيق، وهو في البيت مع أولادك، معية علم وقدرة ورعاية في غيبتك يحفظهم من كل مكروه، يحفظهم من كل حادث، فهو معك، وهو خليفتك في البيت.
رابعا: الحفظ والأمانة، وهو ما ذهب إليه كثير من المفسرين والسلف، أن المهيمن بمعنى الحافظ الأمين على خلقه يحفظهم من كل سوء، وقد سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض؛ لتتيسر معايشهم وتستقيم حياتهم، قال تعالى: ﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: 64].
خامسا: الرحمة والحب، فهيمنة الله عز وجل غير هيمنة البشر بالكلية، ولله المثل الأعلى، فهيمنته مليئة بالحب والرحمة وإرادة الخير للعباد، والحرص على إرشادهم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، وقد ضرب لنا الحبيب محمد ﷺ مثلا راقيا في هذا المعنى، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t قال: "قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحلَّبُ ثَدْيُهَا تسعى إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ: أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لَا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا"([4]).
أما هيمنة البشر فهيمنة تسلط وسيطرة واعتداء وكبت وقهر، كما يحدث من الظلمة، أما هيمنة الله على خلقه فهي هيمنة رحمن رحيم لطيف، هيمنة حب ورعاية؛ لأنه أرحم بنا من أنفسنا.
وكل الخلق يخضعون لهيمنة الله تعالى، لا يفرّ منها أحد، ولا يستثنى جماعة ولا فرد، بل حتى الجمادات داخلة فيها.
وقد حكى القرآن الكريم والسيرة النبوية المطهرة صورا لهذه الهيمنة الربانية، فيسخر ما شاء من كونه وخلقه لتنفيذ مشيئته وتحقيق إرادته، فالنهر يسمع ويطيع.
ففي قصة نبي الله موسى -عليه السلام- قد أوحى الله تعالى لأم موسى أن تضعه في صندوق، ثم تضعه في النهر؛ حتى لا يقتله جنود فرعون، ثم نرى هنا من تجليات هيمنة الله على أم موسي وعلى النهر: ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: 39].
فيخضع النهر لأمر ربه، ويقول: سمعاً وطاعة يا ربي، ويقوم بزحزحة الصندوق حتى يرسو على شاطئ النهر، ويصل تحت قصر فرعون، فيمتثل الجميع لهيمنة الواحد الأحد، ويقوم الخدم بإخراج الصندوق؛ ليجدوا الطفل ويعرفوا أنه من بني إسرائيل حيث لا يمكن أن يفعل هذا الفعل غيرهم؛ خوفاً على أبنائهم من القتل على يد جنود فرعون.
ثم عندما يهمون بقتله تقول امرأة فرعون: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [القصص: 9]، فيمتثل فرعون الطاغية لطلب زوجته المرأة الصالحة، ويدخل الطفل موسى قصر فرعون؛ ليتربى كابن من أبناء الملوك.
ثم يشاء الله (المهيمن) أن يرفض موسى كل المرضعات حتى يشيع الخبر فتذهب أخته التي كانت تتحسس أخباره لحظة بلحظة بأمر أمها، ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [القصص: 11]، وتعرض عليهم مرضعة ممتازة أقنعتهم بها، سيسعد بها الطفل، ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ [القصص: 12].
ثم يأتي أمر الله تعالى المهيمن على كل القلوب، حتى قلوب الكافرين، ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص: 13].
وهكذا تكتمل منظومة الهيمنة الربانية على قصة الطفل موسى، لينجو بأمر ربه من القتل، ويشترك الجميع في تنفيذ فعل الهيمنة التي أرادها الله تعالى لتنفيذ أمره تعالى، فاشترك في ذلك أم موسى، والصندوق الذي حمل موسى، ثم موج النهر الذي أطاع أمر ربه ونفذه بدقة بالغة، ثم الخدم الذين أخرجوا الصندوق من النهر، ثم امرأة فرعون، ثم فرعون الذي أصدر قراراً بعدم قتل موسى، ثم أخت موسى التي راقبت الموقف كاملاً دون أن يشعروا بها، ثم فرعون مرة أخرى عندما قرر إحضار المرضعة الجديدة التي كانت هي أم موسى، وكل ذلك تنفيذاً وطاعة وامتثالاً لأمر الله الحي القيوم، الذي أراد أن يصنع موسى على مرأى وحفظ منه، ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: 39]، ولتتحقق ثمار محبته له: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي﴾ [طه: 39]، فهذه صورة جليّة من صور أفعال الهيمنة الإلهية.
وتطال هيمنة الله أيضا النار التي أوقدوها لإبراهيم -عليه السلام، فتسمع وتطيع لقول المهيمن جل وعز: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: 69]، فلا تحرق إبراهيم -عليه السلام- مع أن من طبيعتها الإحراق.
والحوت يسمع ويطيع، فيبلع يونس -عليه السلام- ولا يهضمه، ثمّ يسير من أعماق البحر، ليلقيَه على الشاطئ.
وفي قصة هجرة الرسول ﷺ مظهر من مظاهر هيمنة الله على الخلق، فقد هاجر الرسول من مكة إلى المدينة، يتعقبه الكفار، وكان الله قادرا على أن ينجي نبيه بأن يساعده على الهرب، أو يحمله على البراق، ولكنه شاء بحكمته أن يعلمنا معنى المهيمن من خلال هذه القصة، فيصل الكفار إليه في الغار، فعَن أَبِي بَكْرٍ t قَالَ: "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْغَارِ، فَرَأَيْتُ آثَارَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، قَالَ: مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا"([5]).
فمن الذي هيمن على أبصار الكفار حتى لا ينظر أحدهم تحت قدمه؟ إنه الله معهما مراقبةً وعلما، وقدرة، وحفظا، تصوَّرْ قدرة الله المطلقة وأنه يحفظك بأقلّ الأسباب.
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
([1]) زاد المسير (4/264، 265).
([2]) تفسير السعدي (ص947).
([3]) أخرجه مسلم (1342).
([4]) أخرجه البخاري (5999)، ومسلم (2754).
([5]) أخرجه البخاري (4663)، ومسلم (2381).
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله، وعلى من والاه، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
عباد الله: إن الحياة في ظل الطاعة التامة لله، والفهم الحقيقي لأسمائه وصفاته تجعل العبد يحلق في سماء العبودية والإقبال على الله -عز وجل-، ومن هذه الأسماء اسم (المهيمن)، فيجب أن تترسخ المعاني الإيمانية العظيمة لهذا الاسم في قلب كل مسلم.
والعبودية في ظل فقه اسم المهيمن لها العديد من الآثار العظيمة، ومنها:
أولا: استحضار معية الله ومراقبته، فعندما يدرك الإنسان أن الله عليه رقيب فإنه يدفعه ذلك إلى الاهتمام بقلبه، ويراقب ما يَرِد عليه، فينتج من ذلك إصلاح قلبه من كل ما يقع فيه من خواطر سيئة، وهواجس شيطانية خبيثة؛ لأنه محل مراقبة الله، ونظر المهيمن الرقيب.
قال ابن مسعود t: "الْعَرْش فَوْق الْمَاء، وَاَللَّه فَوْق الْعَرْش، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْ أَعْمَالكُمْ"([1])، وهذا يجعل العبد يهتم بقلبه ويتعاهده ويراقبه؛ لأنه سبحانه مطلع عليه.
ثانيا: التوكل على الله والثقة به وحده جل وعلا، فإن العبد إذا عرف أن الله هو المهيمن انقطعت آماله ممن سواه، فلا يتوسل لغيره ولا يتوكل إلا عليه، ولا يثق إلا به، ولا يستعين إلا به، ولا يلجأ إلا إليه، فما دام الله هو المهيمن لا شريك له فيجب أن تثق بالمستقبل، وتثق أن الله -عز وجل- ما دمْت لم تبدل فلن يبدل، وما دمت على طاعته قائما فأنت من خير إلى خير، ومن درجة إلى درجة، ومن منزلة إلى منزلة، ومن رقي إلى رقي.
ثالثا: الخوف من المهيمن الذي بيده مقادير كل شيء، ومطلع ومحيط ومقتدر على كل شيء، عليم بكل شيء، فليس له في كونه شريك أو ند أو نظير، فلا تخف من بشر وأنت في كنف (المهيمن)، و(المهيمن) قوي، ولأنه قوي أَمِن مَن آمن به من الخوف.
وأعداء المسلمين مهما كانوا أقوياء فهم بيد الله -عز وجل-، في قبضته، قال تعالى: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ [هود: 56]، وليس في قبضته عامة البشر فحسب، بل حتى الملوك داخلون في قبضته ويخضعون لهيمنته، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، مَالِكُ الْمُلُوكِ وَمَلِكُ الْمُلُوكِ، قُلُوبُ الْمُلُوكِ فِي يَدِي، وَإِنَّ الْعِبَادَ إِذَا أَطَاعُونِي حَوَّلْتُ قُلُوبَ مُلُوكِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَإِنَّ الْعِبَادَ إِذَا عَصَوْنِي حَوَّلْتُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْطَةِ وَالنِّقْمَةِ فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، فَلَا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى الْمُلُوكِ، وَلَكِنِ اشْتَغِلُوا بِالذِّكْرِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيَّ أَكْفِكُمْ مُلُوكَكُمْ"([2]).
هذا يدفع المسلم الصادق الموحد لله بتوحيده في اسمه المهيمن أن يصدع بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم، ويدفعه ذلك إلى أن يعتز بعزة الله، ويستعين به دون غيره؛ لأنه يستمد قوته من المهيمن على العالم كلّه، آخذا بأسباب القوة.
رابعا: استشعار العظمة الإلهية في هيمنته على الكون كله من عرشه إلى أرضه، هيمنة علم وقدرة وإحاطة تامة، قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [يونس: 61].
والإيمان الجازم بأن الله تعالى متصف بكل كمال وجلال، منزه عن كل عيب ونقص، وأن اسمه المهيمن يجمع بين علمه التام، وقدرته الشاملة، ورحمته الواسعة مما يولد تعظيمه في النفوس، ومحبته في القلوب، والانصياع له بالجوارح، والرغبة في لقائه، وعدم القلق، والطمأنينة، فكلما زاد علمك بالله ستزداد سكينتك، ويقينك، وطمأنينتك، وهذا أمران مطردان: زيادة العلم به، وزيادة السكينة والطمأنينة واليقين.
وأخيرا -أيّها المسلمون- قال يحيى بن معاذ الواعظ:
فحُكْمُكَ نــــافذٌ فـــي كُـــلِّ أَمْــرٍ *** وليــس يكون إلا مـــا تُـــريـــد
ذنوبي لا تَـــــضُــــرُّكَ يا إلهي *** وعَـــفْـــــوُكَ نـــافــــعٌ وبـــــه تــجـــود
فنِـــعْــمَ الــــربُّ مــــولانا وإنـــا *** لَــنَـــــــعْــــلَــمُ أننـــــا بئــــس العــبـــيــــــد
قصدتُّ إلى الملوكِ بكُلِّ بابٍ *** عليهِ حاجبٌ فظٌّ شديد
وبابُكَ مــعـدِنٌ للـجود يا مَنْ *** إليهِ يقْصَدُ العَبْدُ الطَّرِيدُ([3])
اللَّهُمَّ إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، ونعوذ بك منك، لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
اللَّهُمَّ إنا نعوذ بك من الشقاق، والنفاق، وسوء الأخلاق.
اللَّهُمَّ إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهمزه، ونفخه، ونفثه.
اللَّهُمَّ إنا نعوذ بك من العجز، والكسل، والبخل، والهرم، والقسوة، والغفلة، والذلة، والمسكنة، ونعوذ بك من الفقر، والكفر، والشرك، والنفاق، والسمعة، والرياء، ونعوذ بك من الصمم، والبكم، والجنون، والبرص، والجذام، وسيء الأسقام.
اللَّهُمَّ إنا نعوذ بك من الفقر، والقلة، والذلة، ونعوذ بك من أن نظْلِمَ أو نُظْلَمَ.
اللَّهُمَّ إنا نعوذ بك من الهدم، ونعوذ بك من التردي، ونعوذ بك من الغرق، والحرق، والهرم.
ونعوذ بك أن يتخبطنا الشيطان عند الموت، ونعوذ بك من أن نموت في سبيلك مدبرين([4]).
([1]) أخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» (2/885).
([2]) أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» (8962).
([3]) انظر: شعب الإيمان للبيهقي (9/425).
([4]) الخطبة من ملتقى الخطباء، الفريق العلمي.