المهيمن
وفي هذا الاسم خطبتان
الخطبة الأولى بعنوان: اسم الله المهيمن
الخطبة الأولى
الحمد لله العلي القدير السميع البصير، الذي أحاط بكل شيء علما وهو اللطيف الخبير، علِم ما كان وما يكون، وخَلَق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها النجاة يوم النشور، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن على طريقتهم يسير، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فإن أشرف العلم مطلقاً هو العلم الذي يعرّف المؤمن بربه، ويدله على مولاه، ولا ريب أن أقرب الطرق لذلك هو التعرف على معاني أسمائه وصفاته عز وجل.
وإذا كان من القبيح أن يجهل الإنسان أحوال أهله وأسرته القريبة فما الظن بالجهل بمعاني ربه الذي خلقه ورزقه وكساه وآواه وعافاه!
ووالله إن من أعظم الحرمان أن ترى بعض المسلمين يعيش فترة من دهره وهو لم يتعلم أو يسأل عن معاني ما يمر به من أسماء حسنى وصفاتٍ علا في كتاب الله أو سنة نبيه ﷺ.
أيها المسلمون: هذا مقام عظيم أقفه اليوم، يرتعش له البدن، ويرتجف له الفؤاد، وحُقّ لكل من يقفه أن يكون كذلك.
إنني أقف لأتحدثَ عمن لا يحصي عبدُه ثناءً عليه، هو سبحانه وتعالى كما أثنى على نفسه.
إنني أتحدثُ عن قطرةٍ من بحر، وجزءٍ يسير من معاني اسمٍ من أسماء الله الحسنى، للإيمانِ به ومعرفةِ معانيه الأثرُ الإيمانيُّ العظيم، والراحةُ النفسية الكبيرة.
إنه اسم الله المهيمن، والذي يتضمن معناه ثلاثة أسماءٍ من أسماء الله، وهي: المحيطُ والحافظ والحفيظ.
فهو المحيط الذي أحاطت قدرته بجميع المقدورات، وأحاط علمه بجميع المعلومات.
وهو الحافظ الذي يصون عبدَه عن أسباب الهلكات.
وهو الحفيظ الذي يصون عبده، كما أنه يحفظ عليه ما عمله من خير وشر.
ويجمع هذه المعاني كلها وصفُ الهيمنة، فهو سبحانه الأمين على الشيء، المحيطُ به علما وقدرة، الحافظُ له، والقائمُ عليه، له الملك والفضل على جميع الخلائق في أعمالهم وأرزاقهم وآجالهم وسائر أمورهم.
قال الغزالي -رحمه الله-: "وَلنْ يجْتَمع ذَلِك على الْإِطْلَاق والكمال إِلَّا لله عز وجل"([1]).
أيها الإخوة: وقد ورد اسم الله المهيمنُ في آية الحشر، في قوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر:23].
قال ابن عاشور -رحمه الله- مبينًا مناسبةَ ذكر اسم المهيمن بين تلك الأسماء الثمانية الواردة في الآية، قال: إن ما ابتدأ به من الصفات -وهي قوله: الملك القدوس السلام المؤمن- لا يؤذِن إلا باطمئنان العِباد لعناية ربهم بهم، وإصلاحِ أمورهم، وأن صفة المهيمن تؤذن بأمر مشترك، فعُقبت بصفة العزيز؛ ليعلم الناس أن الله غالب لا يعجزه شيء، وأُتبعت بصفةِ الجبار الدالة على أنه مسخِّرُ المخلوقات لإرادته، ثم صفةِ المتكبرِ الدالةِ على أنه ذو الكبرياءِ، يصغرُ كل شيء دون كبريائه، فكانت هذه الصفات في جانب التخويف، كما كانت الصفات قبلها في جانب الإطماع([2]).
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مِنْ علامات التَّقْوَى الْإِيمَانَ بِاسْمِ اللَّهِ الْمُهَيْمِنِ، الشَّاهِدِ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَلَا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ شَيْءٌ، لَهُ الْكَمَالُ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَنْسَى وَلَا يَغْفَلُ، جل في علاه.
لَا بُدَّ أيها المؤمن أَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُهَيْمِنُ عَلَيْكَ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُرَاقِبٌ لَكَ فِي الْخَوَاطِرِ وَالْبَوَاطِنِ، يَدْعُوكَ لِحِفْظِهَا، وَيَدْعُوكَ لِمُرَاقَبَتِهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، فَلَا تَنْوِ الشَّرَّ وَلَا تَفْعَلْهُ، وَلَا تَسْعَ إِلَيْهِ وَلَا تَعْمَلْه، وَلَا تُعِنْ عَلَيْهِ.
إِنَّ اسْمَ اللَّهِ الْمُهَيْمِنَ يَجْعَلُ الْمُؤْمِنَ يَثِقُ بِاللَّهِ، وَيَلْجَأُ إِليه فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَإِذَا عَلِمَ بِأَنَّ اللَّهَ مُهَيْمِنٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ تَيَقَّنَ بِأَنَّه سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ الضُّرَّ، وَأَنْ يَرْزُقَهُ، وَأَنْ يَحْفَظَهُ، وَأَنْ يَحْمِيَهُ.
وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْمُؤْمِنَ إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ ارْتَاحَ قَلْبُهُ، وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ، وَوَثِقَ بِقُرْبِ فَرَجِ اللَّهِ، وَلَا يُحِسُّ بِهَذَا إِلَّا مَنْ آمَنَ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، قَرِيبٌ مُجِيبٌ، مُهَيْمِنٌ عَلَى عِبَادِهِ، مُحِيطٌ بِهِمْ، قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، جَلَّ فِي عُلَاهُ، وَعَظُمَ فِي مُلْكِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.
﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: 7].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
([1]) المقصد الأسنى (1/72).
([2]) انظر: التحرير والتنوير (28/123).
الخطبة الثانية
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فاتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
عباد الله: إن الحياة في ظل الطاعة التامة لله، والفَهم الحقيقيّ لأسمائه وصفاته تجعلُ العبد يحلقُ في سماء العبودية والإقبال على الله.
والعبوديةُ في ظل فقه اسم المهيمن لها العديد من الآثار العظيمة، ومنها:
استحضارُ معية الله ومراقبته، فيدفعه ذلك إلى الاهتمام بقلبه، ومراقبة ما يَرِد عليه؛ لأنه محل نظر المهيمن الرقيب، فينتج عن ذلك إصلاح القلب من كل ما يقع فيه من خواطرَ سيئة، وهواجسَ شيطانية خبيثة.
ثانيا: التوكل على الله والثقة به وحده، فإن العبد إذا عرف أن الله هو المهيمن انقطعت آماله ممن سواه، فلا يتوسل بغيره، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يثق إلا به، ولا يستعين إلا به، ولا يلجأ إلا إليه.
ثالثًا: استشعار العظمة الإلهية في الهيمنة على الكون كله من عرشه إلى أرضه، هيمنةَ علمٍ وقدرةٍ وإحاطةٍ تامة، قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [يونس: 61].
معاشر المؤمنين: والهيمنة من صفات الله الذاتية التي لم يزل ولا يزال متصفًا بها سبحانه، ولذا كان من المناسب دعاءُ الله والتوسلُ إليه والثناءُ عليه وتمجيدُه بها في جميع أغراض الدعاء وحاجات العبد، ويتأكد ذلك عند الخوفِ والهم والحاجة للأمن والحفظ، فالله قد أحاط بكل شيءٍ حفظا وهيمنة، قال تعالى عن يعقوب -عليه السلام-: ﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: 64].
وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة t قال: خطبنا رسول الله ﷺ فقال: "إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم، وتأتون الماء إن شاء الله غدا"، فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد، قال أبو قتادة t: فبينما رسول الله ﷺ يسير حتى ابهارَّ الليل وأنا إلى جنبه، قال: فنعس رسول الله ﷺ فمال عن راحلته، فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته قال: ثم سار حتى تهور الليل مال عن راحلته، قال: فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، قال: ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة هي أشد من الميلتين الأوليين حتى كاد ينجفل، فأتيته فدعمته فرفع رأسه فقال: "من هذا؟"، قلت: أبو قتادة، قال: "متى كان هذا مسيرك مني؟"، قلت: ما زال هذا مسيري منذ الليلة، قال: "حفظك الله بما حفظت به نبيه"([1]).
فانظر يا عبد الله كيف حفظ الله المهيمنُ رسولَه الكريم ﷺ من أن يقع على الأرض، وفي الحديث من أدب الصحابة، وحرصهم على راحة حبيبهم وقرة عيونهم ﷺ إلى تلك الدرجة الدقيقة التي يوازن فيها بين أن يدعَمه من غير أن يوقظه، رضي الله عنهم وأرضاهم، وجمعنا بهم مع نبينا ﷺ في المقعد الصدق.
معاشر المؤمنين: وكما أن الله تعالى مهيمن على كل شيء فإن كلامه المنـزَّل على خاتم أنبيائه ورسله مهيمن على ما قبله من الكتب.
هيمنةُ القرآن تلك التي جعلت له السطوة والحظوة والتقديم.
ومن هيمنته أنه حافظٌ على ما في الكتب السابقة من أصول الإيمان، والإقرار بالله، وإرسال الرسل، والاعتراف بهم أنبياءً كرامًا عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال سبحانه: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [المائدة: 48].
اللهم ارزقنا حسن التعرفِ عليك، والتعبدِ لك، والانطراحِ بين يديك.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تجعلنا من عبادك المتقين، ومن أوليائك الصالحين.
اللهم اغفر ذنوبنا، وأصلح قلوبنا وألف ذات بيننا، واهدنا سبل الرشاد، واصرف عنا السوء والفحشاء، واجعلنا من عبادك المخلصين.
اللهم يا مهيمن يا محيط يا حافظ يا حفيظ احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين([2]).
([1]) أخرجه مسلم (681).
([2]) الخطبة للشيخ عبدالعزيز بن محمد العبيدالله.