الأول والآخر
وفي هذين الاسمين خطبة واحدة بعنوان: اسم الله الأول والآخر
الخطبة الأولى
الحمد لله، أحمده حق حمده، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أما بعد:
اتقوا الله حق التقوى، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
يقول الحق تبارك وتعالى في محكم آياته، وهو أصدق القائلين: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180].
وعن أبي هريرة t أن النبي ﷺ قال: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً، مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ"([1]).
أيها المؤمنون: إن معرفة أسماء الله جل جلاله الواردة في الكتاب والسنة، وما تتضمنه من معان جليلة، وأسرار بديعة لمن أعظم الأسباب التي تعين على زيادة إيمان العبد، وتقوية يقينه.
ومن الأسماء الحسنى التي وردت في كتاب الله العزيز اسمان سمى الله بهما نفسه في نص واحد من النصوص القرآنية وهما: الأَوَّلُ وَالآخِرُ.
قال الله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: 3].
وعَنْ سُهَيْلٍ قَالَ: كَانَ أَبُو صَالِحٍ يَأْمُرُنَا إِذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ"، وَكَانَ يَرْوِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ ﷺ([2]).
واسم الله الأول والآخر من الأسماء الحسنى المتقابلة، فلا ينبغي أن يذكر أحدهما إلا ويذكر معه الآخَر، فالله عز وجل هو الأول قبل كل شيء بغير حد، والآخر بعد كل شيء بغير نهاية.
وجاء في معنى الأول أنه سبحانه الذي لم يسبقه في الوجود شيء، فأولية الله تقدمُّه على كل من سواه في الزمان.
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ t قَالَ: إِنِّي عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِى تَمِيمٍ، فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ"، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ"، قَالُوا: قَبِلْنَا، جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ مَا كَانَ؟ قَالَ: "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ"([3]).
وقال الخطابي: "الأول هو السابق للأشياء كلها، الكائن الذي لم يزل قبل وجود الخلق، فاستحق الأولية إذ كان موجوداً ولا شيء قبله ولا معه"([4]).
ومن معاني اسمه تعالى الأوّل: أنه الذي ليس قبله شيء، فكلُّ ما سواه حادث مخلوق، ففي الحديث: "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ"، وفي رواية: "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ"([5]).
كما أن الأولية في الأشياء مرجعيتها إلى الله خلقا وإيجادا وعطاء وإمدادا، قال تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً علينَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 104]، وقال: ﴿قُل يُحْيِيهَا الذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: 79].
واسمه تعالى الآخِر يعني أنه المتصفُ بالبقاء والآخِرِية، فهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وهو الباقي بعد فناء الخلق، قال الله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 88]، فهو الدائم الباقي، الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 26-27].
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا اللهَ باطلٌ"([6]).
ومعنى اسمه تعالى الآخِر يدلّ على دوام بقائه سبحانه، كما قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 26-27].
ومن معاني اسم الله الآخر: أنه سبحانه الذي تنتهي إليه أمور الخلائق كلُّها، كما ورد عند البخاري من حديث البراء t أن النبي ﷺ قال: "اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ؛ رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ"([7])، فأحاطت أوليته وآخِريته بالأوائل والأواخر، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده، فالأول قِدَمه، والآخر دوامه وبقاؤه، فسبق كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخِرِيته، فهو الأول في آخريته، والآخِر في أوليته.
([1]) أخرجه البخاري (2736)، ومسلم (2677).
([2]) أخرجه مسلم (2713).
([3]) أخرجه البخاري (7418).
([4]) شأن الدعاء (ص87).
([5]) أخرجه البخاري (3191)، (7418).
([6]) أخرجه البخاري (3841)، ومسلم (2256).
([7]) أخرجه البخاري (6311)، ومسلم (2710).
الخطبة الثانية
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
أيها المؤمنون: ومن ثمرات معرفة أن الله تعالى هو الأول والآخر التعبد له تعالى بدوام الافتقار إليه.
قال ابن القيم: "فتأمل عبودية هذين الاسمين، وما يوجبانه من صحة الاضطرار إِلى الله وحده، ودوام الفقر إِليه دون كل شيءٍ سواه، وأَن الأَمر ابتدأَ منه وإِليه يرفع؛ فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإِليه ينتهي الأمر حيث تنتهي الأَسباب والوسائل، فهو أَول كل شيء وآخره"([1]).
ومن التعبد لله تعالى بأسمائه الحسنى: دعاؤه سبحانه باسمه الأول والآخر، كما كان يصنع رسول الله ﷺ، فعن أبي هريرة t أن النبي ﷺ كان إذا أراد أن ينام قال: " اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ"([2]).
ومن التعبد لله: أن يعترف العبد بأن الفضل كله من الأول والآخر سبحانه، وليس من نفسه ولا أحد سوى الله تعالى.
وقد ختم الله سبحانه الآية الكريمة التي فيها ذكر الأول والآخر، ختمها بقوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: 3]، فهو سبحانه بكلّ شيء ذو علم، لا يخفى عليه شيء، ولا يعزب عنه مثقالُ ذرّة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبرُ إلا في كتاب مبين([3]).
([1]) طريق الهجرتين (1/20).
([2]) أخرجه مسلم (2713).
([3]) الخطبة للشيخ عبدالله بن عمر التويجري.