الظاهر والباطن

الظاهر,الباطن

اسم كاتب الخطبة: الخطبة للشيخ عبدالله بن عمر التويجري

الظاهر والباطن

وفي هذين الاسمين خطبة واحدة بعنوان: اسم الله الظاهر والباطن

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

أيها المؤمنون: يقول الحق تبارك وتعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[الأعراف: 180].

وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة t أن النبي ﷺ قال: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً، مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ"([1]).

وقد ينسى البشر حقيقتهم، ويغترون بقوتهم وتقدمهم، ويظنون أنهم قادرون ظاهرون على الأرض، فيريهم الله عز وجل من آيات قدرته وعجائب صنعته ما يردهم إلى الصواب، ويعرفهم قدرهم وحقيقة أنفسهم؛ ذلك أنَّ البشر مهما علا أمرهم وارتفع شأنهم فإن الله ظاهر عليهم، فهو الظاهر القاهر الغالب، لا راد لأمره ولا مفر من قضائه، وهو الباطن العالم ببواطن الأمور، فتخفى علينا بواطن كثير من الأمور؛ لأن علمنا مقتصر على الظواهر فقط، وأما الباطن سبحانه فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

عباد الله: من أسماء الله الحسنى اسم الظاهر واسم الباطن، وهذان الاسمان لم يردا في كتاب الله سوى مرة واحدة في سورة الحديد في قوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[الحديد: 3].

وأما ورودها في سنة النبي ﷺ ففي الدعاء المأثور أن النبي ﷺ كان إذا أراد أن ينام قال: "اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ"([2]).

فالظاهر والباطن اسمان متقابلان من أسماء الله الحسنى، وهذان الاسمان من أسماء الله الحسنى يتناولان جانباً من جوانب الكمال الإلهي، قال السعدي -رحمه الله-: "الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وهو بكل شيء عليم قد أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والسرائر والخفايا، والأمور المتقدمة والمتأخرة"([3]).

والمتتبع لكلمة الظاهر يجد أنها كثيرا ما تقترن في نصوص الوحي بالباطن، ومن ذلك قوله عز وجل: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام: 120]، وقوله سبحانه: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20].

ولاسم الله الظاهر معانٍ ودلالاتٌ كثيرة، منها:

المعنى الأول: الظاهر هو الغالبُ لخَلْقه، فالله جل جلاله هو الغالب القاهر الفعّال لما يُريد، فأمره هو النافذ، ومشيئته هي المتحكمة، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو الظاهر لأنه ظهر على خلقه فغلبهم وقهرهم، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21]، فالظاهر يدل على عظمة صفاته سبحانه واضمحلال كل شيء عند عظمته.

المعنى الثاني للظاهر: العالم بالخفايا، المطلع على السرائر، المحيط بالنيات، ومنه يقال: ظهرتَ على سره، أي: علمتَ به، والله عز وجل إضافةً إلى قوته وسيطرته وقدرته وهيمنته هو عليم بكل شيء، ظاهر على كل شيء.

المعنى الثالث للظاهر: أن الله سبحانه ظاهر لكثرة البراهين النقلية الدالة عليه، ولكثرة الدلائل العقلية والكونية التي تشير إليه، فهو ظاهر بما ظهر من آثار أفعاله وصفاته، فكل شيء يدل عليه.

قال رجل لابن أبي داود: "متى كان الله؟ فقال: ومتى لم يكن؟"([4]).

فآثار وجوده سبحانه ظاهرة لكل عاقلٍ تملأ الكون والآفاق.

وللهِ فِي كلِّ تحرِيكةٍ *** وفي كلّ تَسكينَةٍ شاهِدُ

وفِي كلِّ شيءٍ لَهُ آيةٌ *** تَدُلّ على أنّهُ الواحِدُ

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأفادنا سنةَ سيد المرسلين.

 

([1]) أخرجه البخاري (2736)، ومسلم (2677).

([2]) أخرجه مسلم (2713).

([3]) تفسير السعدي (ص937).

([4]) البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي (7/75).

الخطبة الثانية

الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

ولاسم الله الباطن معان متعددة، منها ما يلي:

الباطن المحتجب عن أبصار الخلق، الخفي عن النواظر والعيون، الذي لا يُدْرَك بالحواس، فهو عز وجل باطن لا يُشاهد كما تُشاهد المخلوقات، بل لا تستطيع عين المخلوق أن تراه في الدنيا، قال تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103].

ومن معاني اسم الله الباطن: الخبير العالم بما بطن، أي ما خفي من الأقوال والأفعال، فهو سبحانه وتعالى المطلع على خفايا الأمور، وخبايا القلوب، وسرائر الصدور، وضمائر البشر، ودقائق المخلوقات، وهذا يدل على كمال قربه سبحانه من مخلوقاته، ودقة علمه بأحوالها.

ومن معانيه: القريب من كل شيء، الذي هو أقرب شيء إلى كل شيء، فلا أحدَ أقربُ منه إلى جميع الكائنات والمخلوقات والموجودات، وقد قرر القرآن الكريم هذا المعنى حين قال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16]، وقال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ [الواقعة: 85].

وإذا اقترن اسم الظاهر مع الباطن فإنهما يدلان على تمام الإحاطة، إذ الظاهر المحيط بظواهر الأمور وعلانيتها، والباطن المحيط ببواطنها وخفاياها، فاكتملت له عز وجل الإحاطة بكل شيء علماً.

وما أجمل ما فسر به النبي ﷺ اسم الظاهر والباطن حين قال: "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء"([1])، وفي هذا دلالة على أنه سبحانه محيط بالكائنات جميعا.

أيها المؤمنون: إن كان ربنا عز وجل باطنًا محتجبًا عن عيوننا وحواسنا ولا تدركه أبصارنا فإنه تعالى ظاهر تمام الظهور لكل عقل متأمل متدبر.

لقد ظهر وتجلى ربنا عز وجل لقلب أعرابي قد صفت فطرته وانتفت الموانع من عقله، فأطلقها كلمات تقطر تأملًا وفطنة وذكاء، قائلًا: البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، وهذي سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدلان على اللطيف الخبير([2])!

 
 

([1]) أخرجه مسلم (2713).

([2]) الخطبة للشيخ عبدالله بن عمر التويجري.

عدد الكلمات

1661

الوقت المتوقع

27 د


منبر الحسنى

تاريخ الطباعة/التصدير: 2025-11-14 16:17م