العلي والأعلى والمتعالي
وفي هذه الأسماء خطبة واحدة بعنوان: اسم الله الأعلى
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، ومالك يوم الدين، لا فوز إلا في طاعته، ولا عز إلا في التذلل لعظمته، لا غنى إلا في الافتقار إلى رحمته، ولا حياة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في القرب منه، إذا أطيع شكر، وإذا عصي تاب وغفر، إذا دعي أجاب، وإذا عومل أثاب، أحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأصلي وأسلم على من أرسله الله بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: 18].
عباد الله: إن معرفة أسماء الله جل جلاله، وما تتضمنه من معانٍ جليلة وأسرار بديعة لهي من أعظم الأسباب التي تعين على زيادة إيمان العبد، وتقوية يقينه بالله تبارك وتعالى.
ومن أسمائه الحسنى التي وردت في كتابه العزيز: اسم الله الأعلى، قال الله تعالى: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾ [الليل: 19-20]، وقال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ [الرعد: 9].
إن الله سبحانه له العلو المطلق، له العلو في ذاته، فهو على عرشه استوى، وعلى الملك احتوى، وبجميع صفات العظمة والكبرياء والجلال والجمال وغاية الكمال اتصف، وإليه فيها المنتهى، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5].
فهو العلي بذاته سبحانه *** إذ يستحيل خلاف ذا ببيان
وهو الذي حقا على العرش *** استوى قد قام بالتدبير للأكوان
وله العلو في قدره، فله الصفات التي لا يماثلها صفات أحد من خلقه، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
هو الكمال ونحن النقص شيمتنا *** فكيف تدركه نزهه تنزيها
إنـي ضعـيـف ومحتاج لرحمته *** لولاك ربي فمن نفسي سيهديها
وله العلو في قهره، فالكل تحت قهره وسلطانه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام: 18].
كم من فراعنة بادت بقدرته *** يحدد الله أجالا ويفنيها
يا ظالم الـناس مـغرورا بـقدرته *** أقدرةَ الله تنسى هـل تضاهيها
معاشر المسلمين: إن من آثار الإيمان باسم الله الأعلى الخضوعَ والإخباتَ لله، والتذللَ له، مع محبته وتعظيمه وإجلاله، وهما ركنا العبودية، وتحقيق العبودية لله مطلب شرعي، فالله سبحانه خلق الكائنات كلها لعبادته، وفطرها على توحيده والاعتراف بألوهيته، وإقرارها بفقرها واحتياجها وخضوعها له، إلا أن العجب من أمر هذا الإنسان، فهو أقل الكائنات عبودية لله، وأشدها استكبارا على مقام العبودية، ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ [عبس: 17].
ومن آثار الإيمان باسم الله الأعلى: تعظيمُ الله تعالى، وتعظيمُ أمره ونهيه، وتعظيم الأمر والنهي يعني الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة، والالتزام الصادق بمقتضياتها ودلائلها، والعض عليها بالنواجذ، فأمْرُ الله عز وجل وأمر رسوله ﷺ حقه الإجلال والامتثال، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36].
المؤمن الحق هو الذي يُسْلِم نفسه لله وهو محسن، ويحتكم إلى شرعه في كل أمره، ولا يجد في نفسه حرجا، ويسلم تسليما، فمن يجيب النداء، ويعظم رب العزة والكبرياء، ويقدر الله حق قدره، ويجل شرعه وأمره ونهيه.
ومن آثار الإيمان باسم الله الأعلى: أنه يكسب العزة التي تجعل الإنسان يمشي نحو هدفه مرفوع القامة والهامة، لا يحني رأسه لمخلوق، فهو سيد في هذا الكون، وعبد لله وحده.
ولا عجب إذا رأينا مؤمنا أعرابيا مثل ربعي بن عامر t حين باشر قلبَه بشاشة الإيمان، وأضاء فكرَه آياتُ القرآن يقف أمام رستم في سلطانه وإيوانه غير مكترث له ولا عابئ به، حتى إذا سأله رستم: من أنتم، وما الذي جاء بكم؟ صرخ في الإيوان وأجاب إجابة في عزة مؤمنة فقال: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام([1]).
عزة وأي عزة، إنها لا توجد إلا في ظلال الإيمان بالله العلي الأعلى.
ومن آثار الإيمان باسمه الأعلى: إخلاص العمل لله، بأن يصرف المؤمن كل عبادة له وحده، ويعترف أن عبادة من سواه هي البطلان، ﴿ذَلكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِل وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَليُّ الكَبِير﴾ [الحج: 62].
لذا يجب أن نجعل الهم هما واحدا، وهو إرضاء الله رب العالمين وكفى، فاسلك الطريق بإخلاص، فالإخلاص مسك، والرياء جيفة، ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ [الكهف: 110].
ومن آثار الإيمان: تجنب ظلم العباد وقهرهم، فالظلم حرام ومن كبائر الآثام، حرمه الله على نفسه، وجعله بين عباده محرما، فقال قولا حكيما: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: 44]، وقال وتعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46]، وفي الحديث القدسي قال الله عز وجل: "إني حرمت الظلم علـى نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالـموا"([2]).
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا *** فالظلم آخره يفضي إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تنم
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وسنة نبيه الصادق الأمين، ونفعني وإياكم بما فيهما من الهداية والتبيين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
([1]) انظر: تاريخ الطبري (3/519، 520).
([2]) أخرجه مسلم (2577).
الخطبة الثانية
الحمد الله حمدا يليق بجلال ربنا وعظيم سلطانه، أحمده حمدا كثيرا، وأشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله: إن من آثار الإيمان باسم الله الأعلى الخوفَ منه وحده، وعدم الخوف مما سواه.
والخوف منه سبحانه من أجل صفات أهل الإيمان، قال عز وجل: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2]، وفي زمننا هذا ضعف الخوف من الله في قلوب كثير من البشر، فضعفت هيبة الله، وتناسوا سطوة الله، وتغافلوا عن جبروت الله، ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ [نوح: 13].
لقد كان سيد المرسلين ﷺ يخاف ربه، ويقول: "فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية"([1])، وخافه الصالحون من عباده فكانوا ﴿يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور: 37].
إن من عرف حق الله خشع قلبه لله، وخضع لهيبته، ورضي بقسمته، ولم يرضَ بدونه عوضا، فتحمل في طاعته كل عسير، ها هي آسية بنت مزاحم زوجة أطغى طغاة الأرض فرعون وقفت في ثبات وإيمان بعدما تبين لها الحق في دعوة موسى -عليه السلام-، رغم أنها تعيش في قصر أعظم ملوك الأرض، وبين أحضان النعيم، قص الله علينا شيئا من خبرها فقال: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [التحريم: 11].
ومن آثار الإيمان باسم الله الأعلى: تنزيهه سبحانه عن كل نقص في ذاته وصفاته وأفعاله، وإثبات صفات الكمال له، ﴿قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 42]، وقال سبحانه: ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67]، فسبحان من يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك([2]).
فلا إله إلا الله ما أعظمه، القاهر فوق عباده، المهيمن على خلقه، المستوي على عرشه.
وأخيرا من آثار الإيمان باسم الله الأعلى: أن يتعالى المرء عن كل نقص في إيمانه، فيتعالى عن المعاصي والآثام، فالعبد الصادق لا يستهين بالمعصية مهما كانت صغيرة؛ تحقيقا لقول النبي ﷺ: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كقوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذْ بها صاحبها تهلكْه"([3]).
ولهذا كان السلف y يتحرجون أشد الحرج من الوقوع في المعاصي كبيرها وصغيرها.
فعن أنس بن مالك t قال: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا نعدها على عهد رسول الله ﷺ من الموبقات، أي: المهلكات([4]).
وها هو ذا عبد الله بن مسعود t يقول: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا([5]).
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعا مباركا مرحوما، وتفرقنا من بعده تفرقا معصوما.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك الموحدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم من أرادنا وبلادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين.
عباد الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بَالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِيْ القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعْلَكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون([6]).
([1]) أخرجه البخاري (7301)، ومسلم (2356).
([2]) الحديث أخرجه البخاري (4811)، ومسلم (2786).
([3]) أخرجه أحمد في «المسند» (22808).
([4]) أخرجه البخاري (6492).
([5]) أخرجه البخاري (6308).
([6]) الخطبة للشيخ سليمان بن صالح القوبع.