الخطبة الثانية بعنوان: اسم الله العظيم
الخطبة الأولى
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71]، أما بعدُ:
أيها المؤمنون: لقد اختص الله نفسه بالعظمة كلها، فلا عظيم سواه، ولا كامل إلاه، فله العلم المحيط، والقدرة النافذة، والكبرياء، والعظمة، ومن عظمته أن وسع كرسيه السماوات والأرض وما فيهن.
قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: 67]، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر: 41]، فلا يستحق أي أحد مهما كان أن يُنَزَّل من التعظيم كما يُنَزَّل العظيم سبحانه.
فيستحق سبحانه من عباده أن يعظّموه بقلوبهم؛ خوفًا ومحبةً وإجلالاً، ويعظموه بألسنتهم؛ ذكرًا وثناءً، ويعظموه بجوارحهم؛ طاعةً وقربًا، وأن يبذلوا الجهد في معرفته، والذل له، والانكسار بين يديه، والخضوع لكبريائه، والخوف منه، وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته.
وتيقنوا -عباد الله- أن كل وصف لله له معنى يوجب التعظيم، ولهذا لا يقدر مخلوق -مهما بلغ في القرب والطاعة- أن يثني على الرب سبحانه حق الثناء، أو يفيه قدره الذي ينبغي له، مهما بالغ في الثناء والمدح، إذ لا يحصي أحد ثناء عليه إلا نفسه سبحانه، فهو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده.
وهو سبحانه العظيم القدير الذي لا يعجزه شيء، خلق السماء والأرض، وخلق الجن والإنس جميعًا، وسيبعثهم جميعًا، وكل ذلك كخلق نفس واحدة وبعثها، قال سبحانه: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [لقمان: 28].
عباد الله: لقد أثنى الله على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه العظيم، فقال: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255]، فبعد أن ذكرت آية الكرسي قدرته المطلقة، والتي من مظاهرها حفظ السماوات والأرض، وصف بنفسه بأنه العلي العظيم، فلا يقوم بهذه الصفات والأفعال إلا من اكتملت قوته، وتناهت عظمته.
وقال جل وعلا: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4]، وقال سبحانه: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الحاقة: 52].
وقد وصف نبينا محمدٌ ﷺ ربه -وهو أعرف الخلق به-، وأثنى عليه بأجل أوصاف الكمال والجلال، فعن جابر t قال: قال رسول الله ﷺ: "من قَالَ: سُبْحَانَ الله الْعَظِيم وَبِحَمْدِهِ غُرست لَهُ نَخْلَة فِي الْجنَّة"([1]).
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ 5 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ: "لا إِلَهَ إِلا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ رَبُّ السماوات وَرَبُّ الأرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ"([2]).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ 5 قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ t، فكان مما قاله: "أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ"([3])، وقوله: "فعظّموا فيه الرب" أي: اجعلوه في أنفسكم ذا عظمة، وليس مجرد التلفظ بالتسبيح بهذا الاسم.
وعن عوف بن مالك t قال: قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةً، فَلَمَّا رَكَعَ مَكَثَ قَدْرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: "سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ"([4]).
بل جعل النبي ﷺ التسبيح باسم الله العظيم من أثقل الكلمات في الميزان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ"([5]).
أيها المسلمون: والعظيم لغة هو من بلغ منتهى العظمة، والعزّ، والمجد والكبرياء، والشيءُ العظيم هو القوي والضخم، والعزيز، والماجد.
والعظيم سبحانه هو الجامع لكل صفات العظمة والكبرياء، والمجد والبهاء، فهو الذي تعظمه القلوب، وتحبه الأرواح، وهو صاحب العظمة الكاملة والمطلقة في ذاته وأفعاله، وهو العظيم في أسمائه وصفاته، والعظيم في ملكه وسلطانه، والمؤمنون يدركون أن عظمة كل شيء وإن جلّت في الصفة فهي مضمحلة أمام عظمة العلي العظيم.
وهو سبحانه العلي بذاته فوق عرشه، العلي بقهره لجميع مخلوقاته، العلي بقدره لكمال صفاته، العظيم الذي قهر جبروت الجبابرة، وصغرت في جانب عظمته وجلاله أنوف الملوك القاهرة.
أيها المؤمنون: اعلموا أن لتعظيم الله سبحانه صورًا ومظاهر، فعلى عباده أن يعظّموه من خلالها، منها:
أن يُوصَف بما يليق به من أوصاف الجمال ونعوت الكمال التي وصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه، والإيمان بها، وإثباتها له، دون تشبيهها بخلقه، ولا تعطيلها عما تضمنت من معانٍ عظيمة، فمن شَبَّه ومثَّل، أو عطَّل وأوَّلَ فما عَظَّمَ الله حق تعظيمه.
ومن صور تعظيم الله: تعظيم كتابه الكريم، فالعظيم لا يتكلم إلا بأعظم الكلام، ومن تعظيمه أن يُصدق كتابه، وأن يُحَكَّم في الأرض، فمن لم يفعل ذلك فما عظّم الله حق تعظيمه.
ومن عظمة الله أن كلامه لا يفنى، فلو كانت جميع أشجار الأرض أقلامًا، والبحار مدادًا، لفنيت البحار والأقلام، وكلمات الرب لا تفنى، ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [لقمان: 27].
ومن تعظيم الله: أن يُعظّم أحبُّ خلقه إليه، فيُوقَّر نبيه ويعظم، قال تعالى: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ [الفتح: 9]، ومعنى تعزروه: أي تعظّموه.
ويدخل في ذلك أصحابه وخلفاؤه من بعده، وأتباعه الذين ساروا على هديه وسنته من علماء المسلمين وأئمتهم، فعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ-: "إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ"([6]).
ومن التعظيم لله: تعظيم شعائر دينه، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، ولذا كانت العبادات بما فيها الصلاة بكل أذكارها وتنقلاتها مظهرًا من مظاهر تعظيم الرب سبحانه، فعن عوف بن مالك t قال: قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةً، فَلَمَّا رَكَعَ مَكَثَ قَدْرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: "سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ"([7]).
وعن حذيفة بن اليمان t أنه سمع رسول الله ﷺ يقول إذا ركع: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ"، ثلاث مرات([8]).
ومن تعظيمه سبحانه: اجتناب نواهيه ومحارمه التي حرمها في كتابه، أو حرّمها رسوله ﷺ، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 30].
وإن من تعظيم الله أن يُتقى حق تقاته، فيُطاع لا يُعصى، ويُذكر لا يُنسى، ويُشكر لا يُكفر، فإن من عرف عظمة الله وكبرياءه لم يفتر في عبوديته؛ تعظيمًا وإجلالاً وتسبيحًا.
ولما عرف الملائكة قدره أقروا بعظمته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عن النَّبِيّ ﷺ قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الملاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا ﴿فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ﴾ [سبأ: 23]؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: ﴿الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ﴾ [سبأ: 23]"([9]).
اللهم اجعلنا ممن يعظّمونك، ويعظّمون شرعك ودينك.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
([1]) أخرجه الترمذي (3464).
([2]) أخرجه البخاري (6346)، ومسلم (2730).
([3]) أخرجه مسلم (479).
([4]) أخرجه أبو داود (873)، والنسائي (1049).
([5]) أخرجه البخاري (6406)، ومسلم (2694).
([6]) أخرجه أبو داود (4843).
([7]) أخرجه الترمذي (873)، والنسائي (1049).
([8]) أخرجه ابن ماجه (888).
([9]) أخرجه البخاري (4701).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
عباد الله: إن العبد إذا آمن بعظمة ربه نال الآثار العظيمة التي منها:
تقديره حق قدره، وأن يُنزله منزلته اللائقة به، فلا يتكلم إلا بما يرضي الله، ولا يعمل عملاً يخالف مراد الله.
ومن مقتضيات الإيمان باسم الله العظيم: أن يتعبد العبد ربه به، وذلك بتعظيمه جل وعلا بالقلب خوفًا ووجلاً، ورهبةً ورغبةً، وذلاً وانكسارًا، وباللسان ذكرًا، ومدحًا وثناء، وبالجوارح انقيادًا، وبذلاً وجهدًا، وسعيًا وتفانيًا في سبيل مرضاته.
ومنها أيضًا: أن الإيمان بالعظيم يدفع العبد للتواضع، فإن العبد المؤمن متى أيقن بعظمة الله تلاشت ذاته، وتجلت في قلبه وفي عينيه عظمة الله.
وكلَّما ازددتَّ إلى الله افتقارًا وتذللاً وتواضعًا رفع الله لك ذكرك، وإذا ألبس الله عبدًا لباس العز والهيبة والعظمة فعليه أن يشكر من وهبه ذلك، ويعمل بمقتضى الحق الذي أوجبه الله عليه، فلا يبغي ولا يظلم ولا يستبد؛ لأن هذا الرداء الذي ارتداه قد يُسلب منه إذا لم يرع حقه، وهو مُتَوَعَّد عندئذ بعذاب الله الأليم.
ومن الآثار: أن المؤمن إذا غلب على عقله تعظيم الله عز وجل خضع لهيبته، ورضي بقسمته، ولا يرضى بدونه عِوضًا، ولا يُنازع له اختيارًا، ويبذل في رضاه كلَّ مستطاع؛ لأنَّ من أدرك عظمة ربِّه صغرت عنده الدنيا بما فيها.
فاتقوا الله -عباد الله-، وعظّموه حق تعظيمه، وأثنوا عليه بما هو أهله، واعلموا أنه هو العظيم الذي لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء، لا يُطاع إلا بعلمه، ولا يُعصى إلا بإذنه، ولا يمكن أن يُعصى كرهًا، أو يُخالَف أمره قهرًا، المحيط بكل شيء، القادر على كل شيء، الذي جاوز قدره وعظمته حدود العقول والتصورات.
اللهم ارزقنا تعظيمك، والثقة بك، والتوكل عليك، والرضا بك، والطمأنينة بك، والأنس بذكرك، يا أرحم الراحمين.
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، كما أمركم بذلك ربكم، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]([1]).
([1]) الخطبة من ملتقى الخطباء، الفريق العلمي.