الصمد
وفي هذا الاسم خطبة واحدة بعنوان: الله الصمد
الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.
اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي، وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وذرِّيته وأهل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71]، أما بعدُ:
فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد ﷺ، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فاتقوا الله عباد الله، فبالتقوى يُنال رضا الواحد الأحد، وبها تتحقق سعادة الأبد، وتحصل البركة في الأهل والمال والولد، فطوبى لمن جد واجتهد في توحيد ربه وتقواه وعبد، ويا بشرى له بحسن العقبى إلى أبد الأبد.
أيها المسلمون: المتدبر في أحوال الناس يجد أمورًا عجيبة، فكثير من الناس لا يحفظ من القرآن إلا بعض قصار السور، يصلي بها، ويتعبد لربه سبحانه وتعالى بتلاوتها.
وكثير من هؤلاء يقرأ آيات هذه السور دون أن يتدبر معانيها، فتجد بعض المسلمين ممن يحفظون سورة الإخلاص ويصلون بها إذا سألت أحدهم عن معنى الصمد لا يجيب، وإنما هي تلاوة باللسان دون تدبر للمعاني ولا فهم للكلمات، وإذا سألته عن معنى: ﴿ومن شر غاسق إذا وقب﴾ [الفلق: 3] ربما لا يجيب!
ولا بد -إخواني- أن يعرف العبد نفسه، فيصفها بالضعف والفقر والحاجة، وأن يعرف ربه سبحانه وتعالى المتصف بالقوة والفضل والغنى والعلوّ، ومهما عرفت عن نفسك أيها الضعيف فإنما هو جزء من الحقيقة، ومهما عرفت عن ربك فإنما هو جزء من الحقيقة، فهو سبحانه الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير.
فسبحان الله الأحد الصمد، تفرد بالكمال المطلق في كل شيء، وهو المستغني عن كل شيء، ومن سواه مفتقر إليه في كل شيء، وكل شيء يصمد إليه، ويلجأ إليه، ويعتمد عليه، وهو الكامل في جميع صفاته وأفعاله، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وليس فوقه أحد في كماله، وهو الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم، وسائر أمورهم، وقيام الخلائق وبقاؤها عليه، لا يقضي فيها غيرُه، وهو المقصود في الرغائب، والمستغاث به عند المصائب، وهو الذي يُطعِم، ولا يُطعَم، ولم يلد، ولم يولد، سبحانه وتعالى.
عباد الله: وقد أثنى الله تبارك وتعالى على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه الصمد، قال الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص: 1-2]، وثمرة معرفة اسم الصمد وحقائقِه لا تُقَدَّر بكنوز الأرض.
قال الشنقيطي -رحمه الله-: "قال بعض العلماء: الصَّمَدُ السيد الذي يُلْجَأ إليه عند الشدائد والحوائج، وقال بعضهم: هو السيد الذي تكامل سؤدده وشرفه وعظمته، وعلمه، وحكمته، وقال بعضهم: الصَّمَدُ هو الذي ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 3-4]، وعليه فما بعده تفسيرٌ له، وقال بعضهم: هو الباقي بعد فناء خلقه، وقال بعضهم: الصَّمَدُ هو الذي لا جوف له، ولا يأكل الطعام"([1]).
ومعنى الصمد اللغوي: السيد المقصود الذي لا يُقضى أمر إلا بإذنه، والله سبحانه هو السيد الذي لا سيد غيره، فهو أحد في ألوهيته والكل له عبيد، وهو المقصود وحده بالحاجات، المجيب وحده لأصحاب الحاجات، وهو الذي يقضي في كل أمر بإذنه، ولا يقضي أحد معه، وهذه الصفة متحققة ابتداءً من كونه الفرد الأحد.
وقد أثنى نبينا محمد ﷺ على ربه، وهو أعرف الخلق به، فوصفه وسماه باسمه الصمد، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ""قال الله: كذَّبَني ابنُ آدَم، ولَم يكنْ له ذلك، وشتَمَني ولَم يكُنْ له ذلك، فأمَّا تكذيبُه إيَّاي فقولُه: لن يُعيدَني كما بدَأَني، وليس أوَّلُ الخلْقِ بأهوَنَ عليَّ مِن إعادَتِه، وأمَّا شَتْمُه إيَّاي فقولُه: اتَّخَذ اللهُ ولَدًا، وأنا الأحَدُ الصَّمَدُ، لَم ألِدْ ولَم أولَدْ، ولَم يَكُنْ لي كُفْؤًا أحَدٌ"([2]).
وعن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ t أَنَّ المشْرِكِينَ قَالُوا لرَسُولِ الله ﷺ: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَأَنْزَلَ الله: ﴿قُلْ هُوَ الله أحَدٌ * الله الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص: 1-2]، فَالصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إلا سَيَمُوتُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إلاّ سَيُورَثُ، وإنَّ الله عز وجلّ لاَ يَمُوتُ ولاَ يُورَثُ، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4]، قَالَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ وَلاَ عِدْلٌ، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ([3]).
وعن أبي هريرة t قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "يوشك الناس أن يتساءلوا بينهم حتى يقول قائلهم: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من الشيطان"([4]).
وعن محجن بن الأدرع t أن رسول الله ﷺ دخل المسجد، إذا رجل قد قضى صلاته وهو يتشهد، فقال: اللهم إني أسألك يا الله بأنك الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم، فقال رسول الله ﷺ: "قد غفر له"، ثلاثًا([5]).
وحديث عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ t قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلاً يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى"([6]).
قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: "الصمد الكامل في صفاته، الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته، وقد روي عن ابن عباس 5 أن الصمد هو الكامل في علمه، الكامل في حلمه، الكامل في عزته، الكامل في قدرته، إلى آخر ما ذُكر في الأثر، وهذا يعني أنه مستغنٍ عن جميع المخلوقات؛ لأنه كامل، وورد أيضًا في تفسيرها أن الصمد هو الذي تَصْمُد إليه الخلائق في حوائجها، وهذا يعني أن جميع المخلوقات مفتقرة إليه، وعلى هذا فيكون المعنى الجامع للصمد هو: الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته"([7]).
والصَّمَدُ سبحانه هو الغني بذاته والكل مفتقر إليه، المقصود في جميع الحوائج تتجه إليه القلوب بالرغبة والرهبة، والناس مفتقرون إليه غاية الافتقار، يسألونه حوائجهم، ويشكونه فاقتهم، ويرغبون إليه في مهماتهم؛ لأنه الكامل في أوصافه.
والصمد هو السيد الذي كمل سؤدده، العليم الذي كمل في علمه، الرحيم الذي كمل في رحمته، الذي وسعت رحمته كل شيء، الحليم الذي كمل في حلمه، الحكيم الذي كمل في حكمته، الجواد الذي كمل في جوده، وهكذا سائر أوصافه.
ومن لوازم صمديّة الله سبحانه أنه الغني بذاته الذي لا يحتاج لأحد، وكل الكائنات فقيرة إليه بذاتها، تقصده جميع المخلوقات بالذل والحاجة والافتقار فيلبّي سؤلهم، ويفزع إليه البشر كلهم فيعينهم في قضاء الحاجات وتفريج الكربات؛ لأنه سبحانه لا إله إلا هو، ولا يقدر على ذلك إلا هو، سبحانه اللطيف بعباده الرحيم بهم، قال سبحانه: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر: 2]، وقال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟"([8]).
فلو قام الخلق كلّهم في هذا الوقت وعرضوا حاجاتهم لقضاها سبحانه؛ لأنه صمد غني كريم.
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ t عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تبارك وتعالى أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ"([9]).
والصَّمَد سبحانه هو الذي لم يلد ولم يولد، ولا جوف له، فلا يأكل ولا يشرب، ولا حاجة به إليهما.
قال ابن مسعود t: "الصمد هو الذي ليست له أحشاء"، وقال سعيد بن المسيب: "هو الذي لا حشو له"، وقال الشعبي: "هو الذي لا يأكل ولا يشرب"، وقال محمد بن كعب القرظي وعكرمة: "هو الذي لا يخرج منه شيء"، وقال الربيع: "هو الذي لا تعتريه الآفات"، وقال مقاتل بن حيان: "هو الذي لا عيب فيه"([10]).
وهذه الأقوال مؤداها إلى حقيقة واحدة، ألا وهي أن المخلوق أجوف يعني له أحشاء يدخل فيها أشياء، مثل: الطعام والشراب، ويخرج منها أشياء، مثل: الولد، فالمخلوق ضعيف ناقص يتفرق ويتجزأ ويتمزق، بخلاف الصَّمَد عز وجل الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، فذاته لا تتفرق ولا تتجرأ، ولا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء، ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: 3]، وكذلك صفاته لا تضعف ولا تنقص ولا تتفرق، وإنما له سبحانه الكمال المطلق.
فأخلصوا لله العمل، ولا تشركوا به أحدًا.
اللهم أعزنا ولا تذلنا يا كريم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
([1]) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/474).
([2]) أخرجه البخاري (4974).
([3]) أخرجه الترمذي (3364).
([4]) أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (10422).
([5]) أخرجه أبو داود (985)، والنسائي (1301).
([6]) أخرجه أبو داود (1493)، والترمذي (3475).
([7]) لقاء الباب المفتوح (4/107).
([8]) أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758).
([9]) أخرجه مسلم (2577).
([10]) انظر هذه النقول في مجموع الفتاوى لابن تيمية (17/215، 216).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين، أما بعد:
يا عباد الله: اتقوا الله ربكم، واقدروه حق قدره، واعبدوه واشكروا له، واعلموا أن معرفة الله الصمد ومحبته وطاعته والقرب منه شيء لا يُقدّر بكنوز الأرض، وأن التمرد على شرعه، وعصيان أمره سبيل الخيبة في الدنيا، والخسارة في الآخرة، نسأل الله العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة.
وعطّروا أسماعكم -إخواني- بما ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ بشَّر الرجل الذي كان يقرأ سورة الإخلاص في كل صلاة، ويقول: إني لأحبها لأنها صفة الرحمن، بشره بأن الله يحبه، فبيَّن أن الله يحب من يحب ذكر صفاته سبحانه وتعالى.
عَنْ عَائِشَةَ 1 أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِي صَلاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِـ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: "سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟"، فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ"([1])، فلما أحب صفة الرحمن أحبه الله، والجزاء من جنس العمل.
وقد ورد اسم الله الصمد في سورة الإخلاص، ومن فضل هذه السورة أنها تعدل ثلث القرآن([2])، ولم يكن لها هذا القدر الكبير إلا لما احتوت عليه من صفات رب العالمين سبحانه وتعالى.
واعلموا -إخواني- أن اسم الله الصمد يدل على صفات الكمال والجلال والعظمة، ومن ثمَّ فالدعاء باسم الله الصمد يتضمن الدعاء بالأسماء الحسنى كلها، وهذا يستلزم استجماع قوى القلب العلمية والعملية، والتوسل بصدق وثقة ويقين إلى الصَّمَد المقْصُود لذاته سبحانه وتعالى.
وانظر معي -أخي الكريم- إلى هذا الحديث العذب الجميل، الرجل الذي توسل إلى الله بأنه الأحد الصمد ليغفر له فغفر الله له، عن محجن بن الأدرع t أن رسول الله ﷺ دخل المسجد، إذا رجل قد قضى صلاته وهو يتشهد، فقال: اللهم إني أسألك يا الله بأنك الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم، فقال رسول الله ﷺ: "قد غفر له"، ثلاثًا([3]).
وينبغي على الداعي أن يكون قصده كله وتوجهه كله بجميع حوائجه إلى الله الصمد، مقبلا عليه دون ما سواه، مع الأخذ بالأسباب المأمور بها شرعًا، واليقين بأن الأسباب -مهما توفرت وسهلت- مملوكة لله وحده، فهو ربها ومدبّرها ومليكها وخالقها ومقدّرها، فليحذر المؤمن أن تستغرقه الأسباب، أو يعتمد عليها فينسى الصَّمَد، فلا هو الذي يجد بغيتَه، ولا هو الذي يسلَم من الشرك.
واعلموا -أيها المسلمون- أن الصَّمَد عز وجل يحب الإلحاح في الدعاء، ويغضب على من لا يسأله، وفي الحديث عَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ t قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلاً يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى"([4]).
ويجب على العبد الموفق أن يحرص على الإكثار من الثناء على الله تعالى بما هو أهله من صفات الكمال، ومن ذلك الثناء عليه باسمه الصَّمَد.
وتلاوة سورة الإخلاص بالفهم الذي بيَّنَّاه هو ثناء على الله باسمه الصَّمَد سبحانه وتعالى.
وليحرص كل مسلم على أن يكون صادقًا في اعتماده على الله الصمد، واثقًا به، حَسَن التوكل عليه، فيعتمد على الله في كل شيء؛ لأنه خالق الأسباب ومسبَّـــبَاتها، ثم له بعد ذلك أن يأخذ بالأسباب المشروعة والمباحة، كوسيلة من الوسائل، لا لأنها تنفع بذاتها أو بمفردها، وعليه أن يرضى بما قسمه الله؛ لعلمه أن تقسيم المقادير بيد الصمد سبحانه، فالمبتدأ منه والمنتهى إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله الواحد الأحد الفرد الصمد.
أيها المسلمون: إن لأسماء الله وصفاته آثارا إيمانية تملأ حياة المؤمن يقيناً بوعد ربه، وثباتاً في دينه، وانشراحا في صدره، ومن الآثار الإيمانية لاسم الله الصمد:
الأثر الأول: أن يكون المسلم صادقًا، وأن يأخذ الدين بقوة، وأن يتخلق بالأخلاق الحسنة التي جاء الأمر بها في الشريعة، وأن ينتهي عن أضدادها، فإن الله شكور يحب الشاكرين، رحيمٌ يحب الرحماء، وهكذا كثير من صفاته سبحانه.
الأثر الثاني: إن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالصمدية، وليس في الوجود صمدٌ سوى الله تعالى، فإنه يصمد إليه في الحوائج كلها، ويكون الصمدُ مفزعَه وغايته، فلا يقصد إلا الله، ولا يلجأ في حوائجه إلى غير الله، سواء كان ملكًا مقربًا، أو نبيًّا مرسلاً، أو عبدًا صالحًا، فكل هؤلاء محتاجون لله، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرًّا ولا نفعًا إلا ما وهبهم الله جل جلاله.
وعليه كذلك أن يُنزِل حاجاته بباب الصمد سبحانه، ويقطع رجاءه بما في أيدي الناس من متع الدنيا، فقد قال ﷺ: "من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل"([5]).
الأثر الثالث: أن يكون المسلم نافعا للناس، مقصودًا لقضاء حوائجهم، فاجعل نفسك سببًا ينتفع به الخلق من غير تتضجر، واجعل لك من اسم الله الصمد نصيبًا، وكن فخورًا بذلك، فعن ابن عمر 5 قال: قال النبي ﷺ: "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ"([6]).
قال الغزالي: "ومن جعله الله تعالى مقصد عباده في مهمات دينهم ودنياهم، وأجرى على لسانه ويده حوائج خلقه فقد أنعم عليه بحظ من هذا الوصف -أي: الصمدية-"([7]).
واعلموا -أيها الفضلاء- أن الله عز وجل إذا أحبّ عبدًا وفقه للخيرات، ومن ذلك أن يجعلَ حوائج الناس إليه، ويمكنَه من بعض أسبابِ نفعِ العباد، لذا لا تضجر إذا أقبل الناس عليك، أو تنزعج إذا طُرق بابك كثيرًا، أو تتبرم إذا قصدك الناس، فإن ذلك باب خير فتحه الصمد لك، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ 5 عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "إِنَّ اللهَ قَالَ: أَنَا خَلَقْتُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، فَطُوبَى لِمَنْ قَدَرْتُ عَلَى يَدِهِ الْخَيْرَ، وَوَيْلٌ لِمَنْ قَدَرْتُ عَلَى يَدِهِ الشَّرَّ"([8])، وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْخَيْرَ خَزَائِنُ، وَلِتِلْكَ الْخَزَائِنِ مَفَاتِيحُ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ مِغْلَاقًا لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لَلشَّرِّ مِغْلَاقًا لِلْخَيْرِ"([9])، فإذا أردت أن تعرف مقامك عند الله فانظر فيم استعملك.
الأثر الرابع: إذا استشعر العبد معنى أن خالقه هو الصمد استراح في هذه الحياة من متاعبها ومشاغلها، ذلك أن الصمد هو من يسيّر أموره، ويأمره بكل ما هو صالح له، فليأوِ العبد الفقير إلى ربه القدير الخبير الغني صاحب الأمر والخلق والحكم سبحانه.
إنَّ استشعار العبد لصمدية الله تجعله يستشعر القوة والعزة والغنى عن كل ما سوى الله عز وجل، فيوقن أنّ الله تعالى كافٍ عبده من كل شيء.
والعبد حين يشعر بالضعف أوالوهن أو الفقر أو انقطاع السبب يحتاج إلى مثل هذا المعنى العظيم؛ ليناجي به ربه جلّ وعلا، فلا يلبث أن يرى الكون كله ملكًا له، طالما أن الصمد معه يسمع نجواه ويرى مكانه.
إخوة الإسلام: هذا الإله الواحد الأحد الفرد الصمد العظيم، ألا يُطلب ودّه؟ ألا تُرجى جنّته؟ ألا يُطمع في محبته؟ ألا تُخشى ناره؟ هذا الإله العظيم، هل يُعْصَى؟
لا تنظر -يا عبد الله- إلى صغر الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من اجترأت عليه.
فواعجبًا كيف يغفل العباد عمن لا يغفل عن برهم والإحسان إليهم، كما قال سبحانه: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 14].
وواعجبًا من إعراضهم عن ربهم، كيف يتعلقون بغيره، ويستغيثون بما لا يسمع لهم قولاً، ولا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا يستطيع لهم نصرًا، قال سبحانه: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾ [الزمر: 64].
وواحسرتاه كيف تفعل الشياطين ببني آدم، اجتالتهم عن دينهم، وزيّنت لهم سوء أعمالهم، فصدتهم عن السبيل، قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].
وختامًا -أيها المسلمون- آهٍ لو فقه الناس معانيَ أسماء الله الحسنى، وتعبدوا لربهم بها، ودعوه بها، إذن لتغيرت أحوال كثير من المسلمين.
فلو فقه الناس معنى اسـم الله الصمد مثلاً لما رأينا في العالم الإسلامي كله من يطوف حول القبور.
ولو فقه الناس معنى اسم الله الصمد لما ذهب الناس إلى قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم يطلبون منهم العون.
ولو فقهوا معنى الصمد على الحقيقة لكان إنزال الحاجات والطلب والدعاء والتضرع كله لله الواحد الصمد، ولكن قل من يفقه معاني أسماء الله الحسنى.
اللهم فقهنا في ديننا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وشفاء صدورنا، وجلاء همومنا وأحزاننا، ولا تجعل النار مصيرنا([10]).
([1]) أخرجه البخاري (7375)، ومسلم (813).
([2]) الحديث أخرجه البخاري (5013).
([3]) أخرجه أبو داود (985)، والنسائي (1301).
([4]) أخرجه أبو داود (1493)، والترمذي (3475).
([5]) أخرجه أبو داود (1645)، والترمذي (2326).
([6]) أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» (6026).
([7]) المقصد الأسنى (1/134).
([8]) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (12/173/12797).
([9]) أخرجه ابن ماجه (238).
([10]) الخطبة من ملتقى الخطباء، الفريق العلمي.