اسم اللطيف

اسم كاتب الخطبة: الخطبة للشيخ عبدالعزيز بن محمد العبيدالله

الخطبة السابعة بعنوان: من أسرار اسم الله اللطيف

الخطبة الأولى

الحمد لله العلي القدير، السميع البصير، الذي أحاط بكل شيء علما وهو اللطيف الخبير، علم ما كان وما يكون، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة في يوم النشور، وأشهد أن محمدا عبده وسوله البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن على طريقتهم يسير، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:

فإن أشرف العلم مطلقاً هو العلم الذي يعرّف المؤمن بربه، ويدله على مولاه، ولا ريب أن أقرب الطرق لذلك هو التعرف على معاني أسمائه وصفاته عز وجل.

وإذا كان من القبيح أن يجهل الإنسان أحوال أهله وأسرته القريبة فما الظن بالجهل بمعاني ربه الذي خلقه ورزقه وكساه وآواه وعافاه!

ووالله إن من أعظم الحرمان أن ترى بعض المسلمين يعيش فترة من دهره وهو لم يتعلم أو يسأل عن معاني ما يمر به من أسماء حسنى وصفاتٍ علا في كتاب الله أو سنة نبيه ﷺ.

أيها المسلمون: هذا مقام عظيم أقفه اليوم، يرتعش له البدن، ويرتجف له الفؤاد، وُحقّ لكل من يقفه أن يكون كذلك.

إنني أقف لأتحدثَ عمن لا يحصي عبدُه ثناءً عليه، هو سبحانه وتعالى كما أثنى على نفسه.

إنني أتحدثُ عن قطرةٍ من بحر، وجزءٍ يسير من معاني اسمٍ من أسماء الله الحسنى، وهو اسم الله اللطيف، الذي للإيمانِ به ومعرفةِ معانيه الأثرُ الإيمانيُّ العظيم، والراحةُ النفسية الكبيرة.

واللَّطيف له مَعنَيان:

أحدُهما: اللُّطْف للعَبْد، وهو أنَّ اللَّه جل وعلا يَلطُف له فيُيَسِّر له الأمرَ ويُسهِّله عليه.

الثاني: اللَّطيف بالعبد بالباء، وهو بمعنى إدراك الأمور الخفِيَّة، كما في قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103]، أي: مُدرِكٌ لما خَفِيَ من أمورهم، فيَكون بمَعنَى الخَبيرِ، ولهذا جمَع اللَّه تعالى بينهما، فقال: ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103].

يقول ابنُ القيِّم في النونية:

وَهْوَ اللَّطِيفُ بِعَبْدِهِ وَلعَبْدِهِ *** وَاللُّطْفُ فِي أَوْصَافِهِ نَوْعَانِ

إِدْرَاكُ أَسْرَارِ الْأُمُورِ بِحِكْمَةٍ *** وَاللُّطْفُ عِنْدَ مَوَاقِعِ الْإِحْسَانِ

إذًا فهو جل وعلا اللطيف الذي لطُف علمه حتى أدرك الخفايا والخبايا وما احتوت عليه الصدور، وعلم ما في الأراضي من خفايا البذور، اللطيف الذي لطُف بأوليائه وأصفيائه، فيسرهم لليسرى وجنبهم العسرى، وسهل لهم كل طريق يوصل إلى مرضاته وكرامته، وحفظهم من كل سبب ووسيلة توصل إلى سخطه من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون.

وكم لله من لطفٍ خفيٍّ *** يَدِقّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ

وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ *** فَفَرَّجَ كُرْبَةَ القَلْبِ الشَّجِيِّ

وكم أمرٍ تُساءُ به صباحاً ** وَتَأْتِيْكَ المسَرَّةُ بالعَشِيِّ

إذا ضاقت بك الأحوال يوماً ** فَثِقْ بالواحِدِ الفَرْدِ العَلِيِّ

من آثار الإيمان باسم الله اللطيف: مجاهدةُ النفس على صلاح القلب، فالقلبُ هو محل نظرِ الرب، وإذا علمَ العبد أن ربَّه مطلعٌ على ما في السرائر والضمائر، محيطٌ بكل صغير وكبير، حاسب نفسه على أقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته، قال لقمان لابنه وهو يعظه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ[لقمان: 16].

وكم استشرف العبد على مطلوب من مطالب الدنيا من ولاية أو رياسة أو غيرها من محبوبات النفوس، فيصرفه الله عنها ويصرفها عنه؛ رحمةً به لئلا تضره في دينه، فيظل العبد حزيناً من جهله وعدم معرفته بربه، ولو علم ما ادخر له في الغيب، وأريد إصلاحه لحمدَ الله وشكره على ذلك، فإن الله بعباده رؤوف رحيم، لطيفٌ خبير.

ومن لطفه: أنه يرحمُهم من طاعة أنفسهِم الأمارةِ بالسوء التي هذا طبعها وديدنها، فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى ويصرفُ عنهم السوء والفحشاء، فتوجد أسبابُ الفتنة، وجواذبُ المعاصي، وشهواتُ الغي، فيرسلُ الله عليها برهانَ لطفه، فيتركون تلك المعاصي مطمئنينَ منشرحةً صدورهم.

ومن لطفه بعباده: أنه يقدر أرزاقهم بحسب علمه بمصلحتهم لا بحسب مراداتهم، فقد يريدون شيئاً وغيره أصلح، فيقدر لهم الأصلح وإن كرهوه؛ لطفاً بهم وبراً وإحساناً، ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ[الشورى: 27]، وفي مسند الإمام أحمد: أن رسول الله ﷺ قال: "إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب، تخافونه عليه"([1]).

ومن لطفه بهم: أنه يقدر عليهم أنواعَ المصائب، وضروبَ المحن، والابتلاءَ بالأمر والنهي الشاق؛ رحمة بهم ولطفاً، وسوقًا إلى كمالهم، وكمال نعيمهم، ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216].

ومن لطفه بعبده: أن يقدّرَ له أن يتربى في بيت صالحٍ بين أبوين صالحين؛ ليكتسب من أدبهم وتأديبهم، ولينشأ على صلاحهم وإصلاحهم، كما امتن الله على مريم في قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ [آل عمران: 37] إلى آخر قصتها.

ومن لطف الله بعبده: أن يجعلَ رزقَه حلالاً في راحةٍ وقناعةٍ يحصُل به المقصود، ولا يشغله عما خُلق له من العبادة والعلم والعمل، بل يعينه على ذلك ويفرغُه، ويريحُ خاطرَه وأعضاءه.

ومن لطف الله بعبده: أن يعطيه من الأولاد، والأموال، والأزواج ما به تقر عينه في الدنيا، ويحصل له السرور، ثم يبتليه ببعض ذلك ويأخذُه، ويعوضُه عليه الأجرَ العظيم إذا صبر واحتسب، فهو لطفٌ من الله له أنْ قـيَّض له أسبابًا عوضه عليها الثواب الجزيل والأجر الجميل.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الذكر والحكمة.

 

([1]) أخرجه أحمد في «المسند» (23622).

الخطبة الثانية

الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

ومن لطف الله بعبده: أن يبتليه ببعض المصائب، فيوفقه للقيام بوظيفة الصبر فيها، فينيله درجاتٍ عاليةٍ لا يدركها بعمله، وقد يشدِّدُ عليه الابتلاء بذلك كما فعل بأيوبَ -عليه السلام-، ويُوجِدُ في قلبه حلاوة روح الرجاء، وتأميل الرحمةِ وكشفِ الضر، فيخِفُّ ألمه، وتنشطُ نفسه.

ومن لطف الله تعالى بعبده: أن يجعل ما يبتليه به من المعاصي سبباً لرحمته، فيفتح له عند وقوع ذلك بابَ التوبةِ والتضرعِ والابتهالِ، وازدراءِ النفس واحتقارِها، وزوالِ العجب والكبرِ من قلبه ما هو خير له من كثير من الطاعات.

ومن لطفه بعبده الحبيبِ عنده إذا مالت نفسه مع شهوات النفس الضارة واسترسلت في ذلك: أن يُنغّصَها عليه ويكدرَها، فلا يكاد يتناول منها شيئاً إلا مقروناً بالمكدرات؛ لئلا يميل معها كل الميل، كما أنَّ من لطفه به أن يلذّذَ له القربات، ويحلي له الطاعات؛ ليميلَ إليها كل الميل.

ومن لطف الله بعبده: أن يأجره على أعمال لم يعملْها بل عَزَمَ عليها، فيعزِمُ على قربة من القرب، ثم تنحلُّ عزيمته لسبب من الأسباب فلا يفعلُها، فيحصلُ له أجرُها، فانظر كيف لطف الله به فأوقعها في قلبه، وأدارها في ضميره، وقد علم تعالى أنه لا يفعلها؛ سوقاً لبره وإحسانه إلى عبده كل طريق.

وألطفُ من هذا أن يقدّرَ الله لعبده ويبتليه بوجود أسباب المعصية، ويوفر له دواعيه، وهو تعالى يعلم أنه لا يفعلها؛ ليكون تركه لتلك المعصية التي توفرت أسبابُ فعلها من أكبر الطاعات، كما لطَف بيوسف -عليه السلام- في مراودة المرأة.

ومن لطف الله بعبده: أن يُجرِيَ بشيء من ماله شيئاً من النفع لغيره، فيثيبُه من حيث لا يحتسب، فمن غرس غرساً أو زرع زرعاً فأصاب منه كائنٌ حيٌّ آجره الله وهو لا يدري، خصوصاً إذا كانت عنده نية حسنة.

هذه عباد الله قطرةٌ من بحر، وقليل من كثير من معاني اسم الله اللطيف.

فرحم الله عبداً لمح هذه المعاني، وأحسن الظن بمولاه، وانطرح بين يديه مادحًا له، شاكرًا للطفه، طالباً لعفوه.

فسبحان مَنْ لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه([1]).

 

 
 

([1]) الخطبة للشيخ عبدالعزيز بن محمد العبيدالله.

عدد الكلمات

1770

الوقت المتوقع

29 د


منبر الحسنى

تاريخ الطباعة/التصدير: 2025-11-14 16:18م