الخطبة السادسة بعنوان: لطف الله تعالى
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ لِلَّهِ اللَّطِيفِ الْخَبِير، دَقَّ لُطْفُهُ فَخَفِيَ عَلَى خَلْقِهِ، وَتَعَاظَمَ مُلْكُهُ فَلَا خُرُوجَ لِشَيْءٍ عَنْ أَمْرِهِ، وَاتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ فَوَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ، وَتَبَارَكَ اسْمُهُ، وَتَعَالَى جَدُّهُ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، يُحِيطُ عِبَادَهُ بِأَلْطَافِهِ، وَيُتَابِعُ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ، وَيَدْرَأُ عَنْهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ مَا يَعْلَمُونَ وَمَا يَجْهَلُونَ؛ لُطْفًا بِهِمْ، وَعَفْوًا عَنْهُمْ، وَحِلْمًا عَلَيْهِمْ، وَلَوْ كُشِفَ الْقَدَرُ لِلْعِبَادِ لَاسْتَحْيَوْا مِنْ رَبِّهِمْ، وَرَأَوْا عَظِيمَ لُطْفِهِ بِهِمْ، فَلَهَجَوَا بِحَمْدِهِ وَشُكْرِهِ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، كَانَ يَلْحَظُ لُطْفَ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَا يَمُرُّ بِهِ، وَيَوْمَ الْغَارِ حين أَحَاطَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى قَالَ الصِّدِّيقُ t: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، قَالَ: "مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا"([1])، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاشْكُرُوهُ وَلَا تَكْفُرُوهُ، وَلَاحِظُوا أَلْطَافَهُ سُبْحَانَهُ فِيكُمْ وَفِيمَا يَمُرُّ بِكُمْ، فَمَنْ لَحَظَ لُطْفَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَأْسَ عَلَى مَا يَظُنُّهُ خَيْرًا فَاتَهُ أَوْ شَرًّا أَصَابَهُ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَلْطَافًا خَفِيَّةً فِي مَقَادِيرِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُقَدِّرُ لِلْمُؤْمِنِ إِلَّا مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ"([2]).
أَيُّهَا النَّاسُ: مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِتَعْظِيمِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ تَعَالَى حَقَّ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يَعْبُدْهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ.
وَمَعْرِفَتُهُ سُبْحَانَهُ أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَأَعْلَاهَا؛ لِأَنَّهَا عِلْمٌ بِالْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، بَيْنَمَا مَعَارِفُ الدُّنْيَا مَهْمَا بَلَغَتْ فَهِيَ عِلْمٌ بِالْخَلَائِقِ، وَلَا مُقَارَنَةَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ وَمَعْرِفَةِ الْمَخْلُوقِ.
وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْحُسْنَى (اللَّطِيفُ)، وَمِنْ أَوْصَافِهِ عَزَّ وَجَلَّ اللُّطْفُ، وَفِي أَفْعَالِهِ عَزَّ وَجَلَّ لُطْفٌ كَثِيرٌ، بَلْ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا لُطْفٌ.
وَمِنْ مَعَانِي لُطْفِهِ سُبْحَانَهُ إِيصَالُ الْبِرِّ أَوْ دَفْعُ الضُّرِّ مِنْ جِهَةٍ لَا يَحْتَسِبُهَا الْخَلْقُ.
وَفِي الْقُرْآنِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ عَلَى ذَلِكُمُ اللُّطْفِ الرَّبَّانِيِّ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لِيُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَإِنَّ جَمِيعَ الِابْتِلَاءَاتِ الَّتِي أَحَاطَتْ بِهِ كَانَتْ سَبَبَ الْعِزِّ وَالتَّمْكِينِ له فِي الْأَرْضِ.
وَمِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ خُرُوجَ يُوسُفَ -عليه السلام- مِنَ السِّجْنِ لِيَتَسَنَّمَ ذُرَى الْعِزِّ إِنَّمَا كَانَ بِتَعْبِيرِهِ رُؤْيَا السَّجِينِ الَّذِي اشْتَغَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَصْرِ الْمَلِكِ، ثُمَّ رُؤْيَا الْمَلِكِ الَّتِي عَجَزَ عَنْ تَأْوِيلِهَا الْمُعَبِّرُونَ، فَعَبَّرَهَا يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ لِيَخْرُجَ بِهَا مِنْ ذُلِّ السِّجْنِ، وَيَحْظَى بِقُرْبِ الْمَلِكِ؛ وَلِذَا قَالَ يُوسُفُ فِي خِتَامِ قِصَّتِهِ: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾ [يُوسُف: 100]، فَيُوصِلُ سُبْحَانَهُ بِرَّهُ وَإِحْسَانَهُ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، وَيُبَلِّغُهُ الْمَنَازِلَ الْعَالِيَةَ بِوَسَائِلَ يَكْرَهُهَا.
وَلُطْفُهُ سُبْحَانَهُ فِي قِصَّةِ وِلَادَةِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَخَوْفِ أُمِّهِ عَلَيْهِ حِينَ أَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ، ثُمَّ اشْتَاقَتْ إِلَيْهِ، فَأَعَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا بِأَيْدِي الزَّبَانِيَةِ الَّذِينَ يَكْرَهُونَهُ وَيَكْرَهُونَهَا، وَبِأَهْوَنِ سَبَبٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَجَبَ الرَّضِيعَ عَنِ الْتِقَامِ أَيِّ ثَدْيٍ حَتَّى يَزْدَادَ جُوعُهُ وَبُكَاؤُهُ، فَيَبْحَثَ أَهْلُ الْقَصْرِ عَمَّنْ تُرْضِعُهُ مِنْ النِّسَاءِ، وَهَذَا مَا كَانَ، فَأُعِيدَ الرَّضِيعُ إِلَى حِضْنِ أُمِّهِ وَثَدْيِهَا؛ لِتَطْمَئِنَّ عَلَيْهِ، وَتَقَرَّ عَيْنًا بِهِ، فَمَا أَلْطَفَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَمَا أَعْجَبَهُ مِنْ تَدْبِيرٍ، وَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الْقَصَص: 12-13].
وَفِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَلْطَافٌ رَبَّانِيَّةٌ أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدِ الْخَضِرِ خَفِيَتْ عَلَى كَلِيمِ الرَّحْمَنِ، فَاعْتَرَضَ عَلَى خَرْقِ السَّفِينَةِ لِتَظْهَرَ الْمَصْلَحَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي خَرْقِهَا؛ حِفَاظًا عَلَيْهَا مِنْ أَخْذِ الْمَلِكِ الْمُغْتَصِبِ لَهَا، وَاعْتَرَضَ عَلَى قَتْلِ الْغُلَامِ لِيَظْهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ خَيْرًا لِوَالِدَيْهِ مِنْ بَقَائِهِ، وَاعْتَرَضَ عَلَى بِنَاءِ الْجِدَارِ فِي الْقَرْيَةِ الَّتِي لَمْ يُكْرِمْهُمَا أَهْلُهَا لِيَبِينَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْجِدَارَ يُخْفِي كَنْزًا لِغُلَامَيْنِ يـــتِـــيمَيْنِ كَانَ أَبُوهـُـمَا صَالِحًا، وَلِذَا خَتَمَ الْخَضِرُ بَيَانَهُ لِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تَبْدُو فِي الظَّاهِرِ خَاطِئَةً بِأَنَّهَا أَلْطَافٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الْكَهْف: 82].
وَأَلْطَافُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَثِيرَةٌ:
فَمِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ أَنَّهُ قَدَّرَهَا سُبْحَانَهُ بِلَا مِيعَادٍ، ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الْأَنْفَال: 42]، وَمِنْ لُطْفِهِ فيها أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى رِقَابَ كُبَرَائِهَا وَرُؤَسَائِهَا بَدَلَ الْعِيرِ، بِلَا حِسَابٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الْأَنْفَالِ: 7-8].
وَمِنْ لُطْفِهِ سُبْحَانَهُ فِي غَزْوِ الْمُسْلِمِينَ في بدر أَنَّهُ ألقى النَّوْمَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ المعركة؛ لِيُجَدِّدَ نَشَاطَهُمْ، وَيُذْهِبَ خَوْفَهُمْ، وَيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، مَعَ أَنَّ النَّوْمَ ضَعْفٌ فِي السِّلْمِ فَكَيْفَ بِالْحَرْبِ! فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَهُ قُوَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ، ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ﴾ [الْأَنْفَالِ: 11].
وَفِي غَزْوَةِ أُحُدٍ وَحِينَ الْهَزِيمَةِ وَالِانْكِسَارِ وَالْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ اغْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ غَمًّا عَظِيمًا، فَتَابَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ غَمًّا أَكْبَرَ يُنْسِيهِمْ كُلَّ غَمٍّ سَابِقٍ، وَهُوَ إِشَاعَةُ مَقْتَلِ النَّبِي ﷺ، فَكَشَفَتْ هَذِهِ الْإِشَاعَةُ مَا قَبْلَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْغَمِّ وَخَفَّفَتْهَا، وَلَمْ يَلْبَثْ هَذَا الْغَمُّ إِلَّا يَسِيرًا مِنَ الْوَقْتِ حَتَّى فَرِحَ الصَّحَابَةُ بِسَلَامَةِ النَّبِي ﷺ مِنَ الْقَتْلِ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمُ النَّوْمَ لِيُزِيلَ أَثَرَ الْغَمِّ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ [آلِ عِمْرَان: 153-154]، فَيَا لَهُ مِنْ لُطْفٍ بِالْمُؤْمِنِينَ لَا يَأْتِي إِلَّا مِنَ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ، حِينَ يَجْعَلُ الْغَمَّ الْمُؤَقَّتَ ثَوَابًا وَهُوَ فِي الْأَصْلِ عِقَابٌ؛ لِيُنْسِيَ بِهِ غَمًّا مُتَعَدِّدًا دَائِمًا كَانَ قَبْلَهُ، ثُمَّ يَزُولُ الْغَمُّ الْأَكْبَرُ الَّذِي أَنْسَى مَا كَانَ قَبْلَهُ؛ لِتَتَعَافَى الْقُلُوبُ الْمُؤْمِنَةُ مِنْ هَمِّهَا وَغَمِّهَا، وَتُدْرِكَ لُطْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا.
وَمِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِينَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ شُرُوطَهُ كَانَتْ فِيمَا يَظْهَرُ مُجْحِفَةً بِحَقِّ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى اغْتَمُّوا بِسَبَبِ ذَلِكَ وَاعْتَرَضُوا، وَرَأَوْهَا دَنِيَّةً فِي دِينِهِمْ، وَلَمْ يُدْرِكُوا لُطْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ حِينَ قَدَّرَ الصُّلْحَ وَهَيَّأَ أَسْبَابَهُ، فَأَنْزَلَ فِيهِ سُورَةَ الْفَتْحِ، فَكَانَ مَا ظَنُّوهُ ذُلًّا عِزًّا، وَمَا ظَنُّوهُ ضَعْفًا كَانَ قُوَّةً، وَمَا ظَنُّوهُ تَقْيِيدًا صَارَ فَتْحًا، ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الْفَتْح: 1]، حَتَّى قَالَ عُمَرُ t: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم([3]).
فَكَانَ الْفَتْحُ -أي: فتح مكة- بَعْدَ الصُّلْحِ بِسَنَةٍ وَعَشَرَةِ أَشْهُرٍ فَقَطْ، بَعْدَ أَنْ نَقَضَ الْمُشْرِكُونَ الْعَقْدَ، فَأَوْصَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالصُّلْحِ إِلَى الْفَتْحِ فِي مُدَّةٍ وَجِيزَةٍ، وَذَلِكَ مِنْ لُطْفِهِ الَّذِي خَفِيَ عَلَيْهِمْ.
وَلِلَّهِ تَعَالَى أَلْطَافٌ كَثِيرَةٌ بعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ تَخْفَى عَلَيْهِمْ، فَيُوصِلُ لَهُمُ الْخَيْرَ مِنْ طُرُقٍ لَا يَظُنُّونَهَا، وَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الشَّرَّ بِمَا يَظُنُّونَهُ شَرًّا، وَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ، ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يُوسُف: 100].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه ثم توبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
([1]) أخرجه البخاري (4663)، ومسلم (2381).
([2]) أخرجه مسلم (2999).
([3]) أخرجه البخاري (3182)، ومسلم (1785).
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، أَحْمَدُهُ وَأَشْكُرُهُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آلِ عِمْرَان: 131- 132].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لِلَّهِ تَعَالَى أَلْطَافٌ بعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَثْنَاءَ صِرَاعِهِمْ مَعَ أَعْدَاءِ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ، فَفِي غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ نَقَضَ الْيَهُودُ الْعَهْدَ، فَغَزَاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ، فَتَحَصَّنُوا بِحُصُونِهِمْ، وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَهُمْ، وَهُمْ فِي دُورٍ تُكِنُّهُمْ، وَمَؤونَتُهُمْ حَاضِرَةٌ عِنْدَهُمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الْعَرَاءِ يُحَاصِرُونَهُمْ، وَلَا مَئُونَةَ لَدَيْهِمْ، فَلَطَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِينَ، فَنَزَلَ الْيَهُودُ عَنْ حُصُونِهِمْ مُسْتَسْلِمِينَ، مَعَ أَنَّ جَانِبَهُمُ الْمَادِّيَّ أَقْوَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْقَى الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الْحَشْر: 2].
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَلْطَافَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ فَلَنْ يَجْزَعَ مِنْ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ وَوَعِيدِهِمْ، وَلَنْ يَرْهَبَ قُوَّتَهُمْ وَجَمْعَهُمْ، وَلَنْ يَخَافَ مَكْرَ الْمُنَافِقِينَ وَغَدْرَهُمْ، وَلَنْ يَتَنَازَلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ لِأَجْلِهِمْ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ لُطْفَ اللَّهِ تَعَالَى يُحِيطُ بِالْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا بِدِينِهِمْ مُسْتَمْسِكِينَ، وَأَنَّ مَكْرَ الْكُفَّارِ وَكَيْدَهُمْ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْتِيهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ.
فَعَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى دِينِهِمْ وَلَوْ كَثُرَ النَّاكِصُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، الْمُبَدِّلُونَ لِدِينِهِمْ، الْبَائِعُونَ ضَمَائِرِهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُمْ فَرَّطُوا فِي غَالٍ لِرَخِيصٍ، وَاسْتَبْدَلُوا الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
وَأَعْظَمُ النَّصْرِ وَأَعْلَاهُ أَنْ يَلْقَى الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَلَوْ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ مُضَامِينَ، ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آلِ عِمْرَان: 139-141].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]([1]).
([1]) الخطبة من ملتقى الخطباء، الفريق العلمي.