الخطبة الخامسة بعنوان: لطف الله تعالى
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ لِلَّهِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ، عَمَّ بِلُطْفِهِ الْعَالَمِينَ، فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ إِلَّا وَنَالَهُ مِنْ لُطْفِ اللهِ تَعَالَى مَا صَلَحَ بِهِ عَيْشُهُ، وَتَجَاوَزَ مِحْنَتَهُ وَكَرْبَهُ، نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ أَهْلُ الْحَمْدِ كُلِّهِ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، عَلَانِيَتُهُ وَسِرُّهُ، فَأَهْلٌ أَنْ يُحْمَدَ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ﴿فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [الزخرف: 84-85]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَخْبَرَ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمَا يَمْلَأُ الْقُلُوبَ عُبُودِيَّةً لَهُ وَتَعْظِيمًا وَمَحَبَّةً وَخَوْفًا وَرَجَاءً، وَبمَا تَسْكُنُ الْأَنْفُسُ إِلَيْهِ حَمْدًا وَشُكْرًا وَرِضًا وَتَسْلِيمًا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَنِيبُوا إِلَيْهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ دِينَهُ حَقٌّ، وَكِتَابَهُ حَقٌّ، وَوَعْدَهُ حَقٌّ، ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء: 122].
أَيُّهَا النَّاسُ: حِينَ تَتَابَعُ الْكَوَارِثُ وَالنَّكَبَاتُ، وَتَتَفَاقَمُ الْأَزَمَاتُ وَالـمُشْكِلَاتُ، وَتَزْدَادُ الْأَخْطَارُ وَالـمَخَاوِفُ فَلَا مَلْجَأَ إِلَّا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَا مَفْزَعَ إِلَّا إِلَى عِبَادَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا سُلْوَانَ إِلَّا فِي كِتَابِهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِي كِتَابِهِ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ الَّتِي مَنْ أَدْمَنَ عَلَى مُطَالَعَتِهَا وَفهمها امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، فَزَادَ تَوَكُّلُهُ، وَتَبَدَّدَتْ مَخَاوِفُهُ، فَوَاجَهَ الْأَخْطَارَ بِعَزْمٍ وَثَبَاتٍ.
وَمِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى (اللَّطِيفُ)، وَمِنْ صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ لُطْفُهُ بِعِبَادِهِ، وَقَدْ كُرِّرَ ذِكْرُ ذلك فِي الْقُرْآنِ؛ لِيَرْكَنَ قَارِئُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَيَطْمَئِنَّ لِلُطْفِهِ سُبْحَانَهُ، مَهْمَا عَظُمَتِ الْكُرُوبُ وَالشَّدَائِدُ، وَازْدَادَتِ الْأَخْطَارُ وَالْمَخَاوِفُ، ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ الْمُؤْمِنِ بِلُطْفِ اللهِ تَعَالَى بِهِ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَلُطْفُهُ سُبْحَانَهُ يَدُورُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ عَظِيمَيْنِ يَحْتَاجُهُمَا الْمُؤْمِن:
الأول: أَنَّ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ دَقَّ وَلَطُفَ حَتَّى أَدْرَكَ السَّرَائِرَ وَالضَّمَائِرَ وَالْخَفَايَا.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّهُ يُوصِلُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَصَالِحَهُمْ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا أَهَمَّهُمْ مِنْ أَخْطَارِهِمْ بِطُرُقٍ لَا يَشْعُرُونَ بِهَا وَلَا يَتَوَقَّعُونَهَا.
وَكَمْ فِي هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ طُمَأْنِينَةٍ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَبْطٍ عَلَيْهَا، وَتَثْبِيتٍ لَهَا.
وَفِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ آيَاتٌ عِدَّةٌ تَدُلُّ عَلَى دِقَّةِ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى:
قال تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 13-14]، وَلَمَّا نَهَى سُبْحَانَهُ نِسَاءَ النَّبِيِّ ﷺ عَنِ الخُضُوعِ بِالْقَوْلِ، وَتَبَرُّجِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَمَرَهُنَّ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ خَتَمَ الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ [الأحزاب: 34]، وَمِنْهُ قَوْلُ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: 16].
وَذَاتَ لَيْلَةٍ تَسَلَّلَ النَّبِيُّ ﷺ بِرِفْقٍ مِنْ فِرَاشِ عَائِشَةَ 1 لِئَلَّا يُوقِظَهَا، أَرَادَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَلَحِقَتْهُ عَائِشَةُ 1 مُتَخَفِّيَةً تَنْظُرُ مَاذا يَفْعَلُ، فَلَمَّا انْحَرَفَ رَاجِعًا رَجَعَتْ عَائِشَةُ 1، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعَتْ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلَتْ، فَسَبَقَتْهُ إِلَى فِرَاشِهَا كَأَنَّهَا نَائِمَةٌ، لَكِنَّ أَنْفَاسَهَا مِنَ الْهَرْوَلَةِ كانت عَالِيَة، فَسَأَلَهَا مَا بِهَا، فَلَمْ تُخْبِرْهُ، فَقَالَ ﷺ: "لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ"، فأَخْبَرته، وَقَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ"([1]).
وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّانِي لِلُطْفِهِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ إِيصَالُ الْمَصَالِحِ لِعِبَادِهِ من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَلَا يَتَوَقَّعُونَ فَجَاءَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-:
فَإِنَّهُ أُلْقِيَ فِي الْجُبِّ وَهُوَ مَظِنَّةُ الْهَلَكَةِ، ثُمَّ بِيعَ عَبْدًا وَهَذَا مَظِنَّةُ الِاسْتِمْرَارِ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَقَضَاءِ الْعُمرِ فِي خِدْمَةِ مَنِ اشْتَرَوْهُ، ثُمَّ اتُّهِمَ بِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ فَسُجِنَ وَهَذَا مَظِنَّةُ الْبَقَاءِ فِي السِّجْنِ إِلَى الْمَوْتِ؛ لِقُوَّةِ الْعَزِيزِ وَتَمَكُّنِهِ، وَلَوَ نَجَا يُوسُفُ -عليه السلام- مِنْ بَعْضِهَا لَمْ يَنْجُ مِنْ جَمِيعِهَا، فَجُبٌّ ثُمَّ رِقٌّ ثُمَّ سِجْنٌ، وَلَكِنَّ أَلْطَافَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى غَيْرِ حِسَابَاتِ الْبَشَرِ؛ إِذْ جَعَلَ ابْتِلَاءَاتِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- هِيَ السُّلَّمَ الَّذِي يُوصِلُهُ لِلْمَجْدِ وَالْعَلْيَاءِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، إِذْ بِرَمْيِهِ فِي الْجُبِّ نَقَلَتْهُ الْقَافِلَةُ مِنَ مَكَانِهِ فِي الصَّحْرَاءِ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي بِهَا قَصْرُ الْمَلِكِ، وَبَيْعُهُ رَقِيقًا أَوْصَلَهُ إِلَى بَيْتِ الْعَزِيزِ، وَفِتْنَةُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ بِهِ أَوْصَلَتْهُ إِلَى السِّجْنِ وَهُوَ الْعَتَبَةُ الْأَخِيرَةُ لِيَصِلَ إِلَى الْمَلِكِ عَنْ طَرِيقِ تَعْبِيرِ رُؤْيَاهُ بَعْدَ أَنْ عَبَّرَ لِلسَّجِينَيْنِ رُؤْيَاهُمَا.
وَفِي هَذِهِ السِّلْسِلَةِ مِنَ الابْتِلَاءَاتِ الَّتِي يَكْتَنِفُهَا لُطْفُ اللهِ تَعَالَى وَيُحِيطُ بِهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بَلَغَ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْمَنْزِلَةَ، وَجُعِلَ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَجِيِءَ بِأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ إِلَيْهِ، وَبَعْدَ أَنِ عرض يُوسُفُ لِأَبِيهِ مَا جَرَى عَلَيْهِ خَتَمَ ذَلِكَ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: 100]، فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ ابْتِلَاءَاتِ يُوسُفَ مُمَهِّدَاتٍ لِرِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِ، وَعُلُوِّ مَكَانَتِهِ، وَذَلِكَ بِلُطْفِهِ سُبْحَانَهُ بِحَيْثُ لَمْ يَشْعُرْ يُوسُفُ بِذَلِكَ، وَلَا شَعَرَ بِهِ إِخْوَتُهُ الَّذِينَ مَكَرُوا بِهِ.
وَيَتَجَلَّى لُطْفُ اللهِ تَعَالَى أَيْضًا فِي رِزْقِ الْعِبَادِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُمْ وَيَرْزُقُهُمْ، وَرِزْقُهُ لِعِبَادِهِ بِمَا يَحْتَسِبُونَ وَمَا لَا يَحْتَسِبُونَ، وَبِمَا يَظُنُّونَ وَمَا لَا يَظُنُّونَ.
وَمَا لَا يَحْتَسِبُونَهُ وَلَا يَظُنُّونَهُ مِنْ رِزْقِ اللهِ تَعَالَى هُوَ مِنْ لُطْفِهِ سُبْحَانَهُ، قَدَّرَهُ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [الحج: 63]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ [الشورى: 19]، فَرِزْقُهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ مِنْ لُطْفِهِ بِهِمْ، وَهُوَ يُجْرِيهِ لَهُمْ أَيْضًا بِلُطْفِهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَلَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ عَنْ أَلْطَافِ رَبِّنَا سُبْحانَهُ بِعِبَادِهِ وَبِرِّهِ وَصُنْعِهِ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُونَ وَمِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ لَذَابَتْ قُلُوبُهُمْ حُبًّا لَهُ، وَشَوْقًا إِلَيْهِ، وَلَخَرُّوا شُكْرًا لَهُ، وَلَكِنْ حَجَبَ الْقُلُوبَ عَنْ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ إِخْلَادُهَا إِلَى عَالَمِ الشَّهَوَاتِ، وَالتَّعَلُّقُ بِالْأَسْبَابِ، فَصُدَّتْ عَنْ كَمَالِ نَعِيمِهَا، وَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
وَحِينَ يَتَأَمَّلُ الْمُؤْمِنُ اتِّصَافَ اللهِ تَعَالَى بِاللُّطْفِ فَإِنَّهُ يُوقِنُ بِدِقَّةِ عِلْمِهُ سُبْحَانَهُ، وَإِحَاطَتِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ، صَغِيرًا كَانَ أَمْ كَبِيرًا، فَيَدْعُوهُ ذَلِكَ لِمُرَاقَبَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ.
وَلُطْفُ اللهِ تَعَالِى بِالْعَبْدِ يُحِيطُ بِهِ فِي كُلِّ شُؤونِهِ وَأَحْيَانِهِ، وَيُسْعِفُهُ فِي كُلِّ مَخَاطِرِهِ، وَيُؤَمِّنُهُ مِنْ كُلِّ مَخَاوَفِهِ، وَلَوْلَا لُطْفُ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ لَامْتَلَأَتِ الْقُلُوبُ وَحْشَةً وَخَوْفًا وَرُعْبًا، وَلَمَا طَابَتْ بِالْحَيَاةِ عَيْشًا.
وَلُطْفُ اللهِ تَعَالَى عَامٌّ وَخَاصٌّ:
فَالْعَامُّ يَشْمَلُ كُلَّ خَلْقِهِ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُمْ وَيَرْزُقُهُمْ وَيَشْفِيهِمْ وَيُعَافِيهِمْ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَبُّهُمْ فَهُوَ لَطِيفٌ بِهِمْ.
وَلُطْفٌ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ يُحِيطُهُمْ بِهِ، وَلَا يُقَدِّرُ لَهُمْ إِلَّا مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ وَلَوْ كَرِهُوهُ؛ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، خَبِيرٌ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، فَإِذَا أَصَابَهُمْ بِمَا يُحِبُّونَ لَطَفَ بِهِمْ فَرَزَقَهُمُ الشُّكْرَ عَلَيْهِ لِيَتَضَاعَفَ أَجْرُهُمْ، وَيُبَارِكَ لَهُمْ فِيمَا رَزَقَهُمْ، وَإِنْ أَصَابَهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَ لَطَفَ بِهِمْ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ وَالرِّضَا لِيُوَفَّوْا أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].
أَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَنَا الْإِيمَانَ وَالْيَقِينَ، وَالرِّضَا وَالتَّسْلِيمَ، وَأَنْ يُحِيطَنَا بِلُطْفِهِ وَعَفْوِهِ فِي أُمُورِنَا كُلِّهَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه ثم توبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
([1]) الحديث أخرجه مسلم مطولا (974).
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، أَحْمَدُهُ وَأَشْكُرُهُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاشْكُرُوهُ فِي النَّعْمَاءِ، وَاصْبِرُوا فِي الضَّرَّاءِ، وَلَا تَجْزَعُوا فِي الْبَلَاءِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].
أَيُّهَا المسْلِمُونَ: حِينَ يُصِيبُ النَّاسَ نَقْصٌ فِي أَرْزَاقِهِمْ، وَيَتَكَالَبُ الْأَعْدَاءُ عَلَيْهِمْ بِشَتَّى مِلَلِهِمْ، وَيُحِيطُونَ بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِمْ، وَيُؤْذُونَهُمْ أَشَدَّ الْأَذَى فِي إِخْوَانِهِمْ، وَيَرُومُونَ تَبْدِيلَ دِينِهِمْ، وَمَسْخَ شَرِيعَتِهِمْ، وَيُهَدِّدُونَهُمْ وَيَتَوَعَّدُونَهُمْ، وَحِينَ يَشْتَدُّ الْكَرْبُ، وَيَعْظُمُ الْخَطْبُ، فَإِنَّهُ لَا غِنى لِأَهْلِ الْإِيمَانِ عَنْ مُلَاحَظَةِ لُطْفِ اللهِ تَعَالَى فِي كُلِّ أَمْرٍ يَقَعُ.
فَمِنْ لُطْفِ اللهِ تَعَالَى انْكِشَافُ الْأَعْدَاءِ وَظُهُورُهُمْ عَلَى حَقِيقَتِهِمْ، وَتَجَلِّي آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي الْكُفَّارِ وَالمنَافِقِينَ وَكَأَنَّهَا تَتَنَزَّلُ هَذِهِ الْأَيَّامَ، وَالْوَعْيُ بِحَقِيقَةِ الْأَعْدَاءِ هُوَ أَوَّلُ مَرَاحِلِ النَّصْرِ.
وَمِنْ لُطْفِ اللهِ تَعَالَى ذَهَابُ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ الْمَادِّيَّةِ إِلَّا سَبَبَ اللهِ تَعَالَى، وَانْقِطَاعُ الْحِبَالِ إِلَّا حَبْلَهُ، فَلَا حَوْلَ لِلْعِبَادِ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ سُبْحَانَهُ فِي مُقَابَلَةِ بَلَائِهِمْ، وَمُوَاجَهَةِ أَعْدَائِهِمْ، وَهَذَا سَبَبٌ لَطِيفٌ مِنَ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ يُرْجِعُ النَّاسَ لِدِينِهِمْ، وَيَزِيدُ فِي إِيمَانِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ.
وَفِيهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى بِلُطْفِهِ، وَخَفَاءِ تَقْدِيرِهِ عَلَى الْبَشَرِ قَدْ يَسُوقُ الْأَعْدَاءَ بِمَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ إِلَى هَلَاكِهِمْ وَدَمَارِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، كَمَا مَكَرَ سُبْحَانَهُ بِالمكَذِّبِينَ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ لَمَّا مَكَرُوا بِالرُّسُلِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ.
وَمَا عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ إِلَّا اللُّجُوءُ لِرَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ، وَمُرَاجَعَةُ دِينِهِمْ، وَتَجْدِيدُ تَوْبَتِهِمْ، وَمُلَاحَظَةُ لُطْفِ اللهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُمَّتِهِمْ، وَسَيُبَدِّلُ اللهُ تَعَالَى حَالَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]([1]).
([1]) الخطبة للشيخ إبراهيم الحقيل.