الخطبة الرابعة بعنوان: لطائف اللطيف
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فِي الْيَمِّ أَلْقَتْ طِفْلَهَا وهي ضَعِيفَة مَقْهُورَة، تُجَابِه لِوَحْدِهَا مِنْ غَيْرِ عَشِيرة قراراتِ دولة فرعونية جائرة، كَادَ قَلَبُهَا أن يَنْخَلِعَ وهي تلقي رضيعها في اليم، وَحُقّ لَه أن يَنْخَلِع، فَإِذَا بلطائف اللطيف تربط على قلبها، وتسلي وحشتها، وتذهب كمدها، ﴿لَوْلَا أن ربطنا عَلَى قَلَبِهَا لِتَكُونَ مَن الْمُؤْمِنِين﴾ [القصص: 10].
امرأة في عينِ العَاصِفة دَفَنتْ حُبَّهَا لِابْنِهَا وَأَلْقَتْه فِي الْيَمّ، ثُمّ كَيْف بَات فُؤَادُهَا فَارِغًا مَن كَلّ شَيْء سِوَى هَمِّها بِابْنِهَا، ثُمّ كَيْف كادتْ أن تُبْدِي بِه لَوْلَا أن رَبَط اللَّطِيفُ على قَلْبِهَا، ثُمّ تَأَمَّلْ كَيْف انْتَشَلَ اللَّطِيفُ كليمَه مِن قَبْضَةِ العدو، كُلُّ هَذَا لُطْفًا بِتِلْكَ المرأةِ ﴿كَيّ تُقِرّ عَيْنِهَا ولا تَحْزَن﴾ [القصص: 13].
وهذه سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِين انْتَبَذَتْ من أَهْلِهَا، فَوَهَب لَهَا الكريم غُلَامًا زَكَّيَا مُعْجِزَةً عظيمة إِلَى يَوْم الدّيْنْ، جَاءَهَا الْمَخَاضُ واجتمعَت عَلَيْهَا الْكُرُوبْ، كُرْبَةُ الطَّلْقِ، وَكُرْبَةُ الْغُرْبَةِ، وَكُرْبَةُ الْبُهْتَانْ، حتى قالت: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتّ قبل هَذَا وَكُنْت نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ [مريم: 23]، فَإِذَا اللُّطْفُ الرَّبَّانِيُّ بِهَا أَقْرَبُ إِلَيْهَا مَن حَبْلِ الْوَرِيدِ، ﴿أَلَا تحزني قَد جَعَل رَبُّك تَحْتِكّ سَرَيَا﴾ [مريم: 24].
أيّها الفضلاء: لِكُلِّ بُنْيَانٍ مِفْتَاح، وَمِفْتَاحُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ مَعْرِفَةُ الرَّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالى، وَهُوَ أَسَاسُ بِنَاءِ الدّيْنْ، عَلَيْهِ تُبْنَى مَقَامَاتُ الدّيْنِ وَمَرَاتِبِه الْمُنِيفَة، وَكَيْف يَسْتَقِيمُ أَمْر الْبَشَرِيَّةِ دُوْنَ مَعْرِفَتِهِم بِفَاطِرِهِمْ وَبَارِئِهِم!
وصدقَ العِزُّ بن عَبْدِالسّلامِ -رحمه الله- حين قال: "والله لن تصل إلى شيء إلا بالله، فكيف توصل بغيره؟"([1]).
ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ -رحمه الله- أَنْ امرأة مَن الْعَابِدَاتِ قَامَتْ مِن أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَقَرَأْت: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ [الشورى: 19]، فلم تجاوزها حتى أصبحت([2]).
فعلًا.. كم يغمرنا لطف الله ونحن لا نشعر!
ويقول ابْن الْقَيِّم -رحمه الله-:
وَهُوَ اللَّطِيفُ بِعَبْدِه وَلِعَبْدِه *** وَاللُّطْفُ فِي أَوْصَافِه نَوْعَانِ
إدراكُ أَسْرَارِ الْأُمُورِ بِخِبْرَة *** وَاللُّطْفُ عِنْدَ مَوَاقِعِ الْإِحْسَانِ
فَيُرِيْكَ عِزَّته وَيُبْدِي لُطْفه *** وَالْعَبْدُ فِي الْغَفَلَاتِ عَن ذَا الشَّانِ
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَن خَلَق وَهُو اللَّطِيفُ الْخَبِير﴾ [الملك: 14]، لَطِيفٌ يَلْطُف بِعَبْدِه وَوَلِيّه فَيَسُوقُ إلَيْه الْبَرَّ وَالْإِحْسَانَ مَن حَيْثُ لا يَشْعُر، وَيَعْصِمُه مَن الشَّرّ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب، وَيُرقيه إِلَى أَعْلَى الْمَرَاتِب بِأَسْبَابٍ لا تَكُونُ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى بَال، حَتَّى إنَّه يُذِيقَه الْمَكَارِه لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى المحابّ الْجَلِيلَة وَالْمَقَامَاتِ النَّبِيلة.
يَهْتِفُ الصَّالِحُون فِي دَعَوَاتِهِم: يَا لَطِيف، فَإِذَا رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ تَغْشَاهُم، تصلح أَحْوَالهم الظَّاهِرَة وَالْبَاطِنَة، وتَنْدَفِعُ بها عَنْهم الْمَكَارِهُ مَن الْأُمُور، فاندفاعُ الشرورِ عن العباد لطف بهم.
وفِي عمقِ الْبَلَاءِ يَجِدُ الْمُؤْمِنُ في اسْمِ اللَّهِ اللَّطِيفِ فَرْجًا مُعَجَّلًا وَلَطَائِفَ خفية، بِها يَفْهَمُ مَعْنَى اسْمِ رَبِّه اللَّطِيف.
وَقَد جَرَت عَادَةُ اللَّطِيفِ سُبْحَانَه أَنَّه يَسُوقُ إِلَى عَبْدَه الْخَيْر، وَيَدْفَعُ عَنْه الشَّرَّ بِطُرُق لَطِيفَةٍ تَخْفَى عَلَى الْعِبَاد.
ومِن لُطْفِه أن يُرِيَ عَبْدَه عِزَّتَه وَكَمَالَ اقْتِدَارِه، ثُمّ يُظْهِرُ لُطْفَه بَعْد أن أَشْرَف الْعَبْدُ عَلَى الْيَأْسِ وَالْهَلَاك.
إنَّ مَن عَادَتِه تَعَالَى أَنَّه كَلَّمَا عَظَمَ الْبَلَاءُ عَظَم اللُّطْفُ وَالْفَرْج.
وَمَنّ لَطِيف لُطْفِه بِعَبْدِه أنْ يؤهله لِلْمَقَامَاتِ الساميةِ الَّتِي لا تُدرَكُ إلَّا بِعَظَائِمِ الْأَسْبَابِ وَعُلْيَا الْعَزَائِمِ، فيُقدِّرَ لَه فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِه بعضَ الْأَسْبَابِ الْمُحْتَمَلَةِ الْمُنَاسِبَةِ لَمَّا يُؤَهَّلُ لَه؛ لِتَتَمَرّنَ نَفْسُه وَيصِيرَ لَها مَلَكَةً مَن جِنْسِ ذَلِك الأَمْر.
وكذلك يُذِيقُ عَبْدَه حَلَاوَةَ بَعْضِ الطَّاعَاتِ، فَيَنْجَذِبُ لها، وَيَرْغَبُ فيها، فيصير لَه بَعْد ذَلِك مَلَكَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى طَاعَاتٍ أَعْلَى وَأَجَلّ لَم تَكُن حَاصِلَةً بِتِلْك الْإِرَادَة السَّابِقَة حَتَّى وَصْلَ إِلَى هَذِه الْإِرَادَةِ وَالرَّغْبَةِ التَّامَّة.
عِبادَ الرحمن: وَمِنْ عَظِيمِ لُطْفِه غيرَتُه تَعَالَى عَلَى عَبْدِه إِذَا فَتْحَ لَه بَاباً مَن الصَّفَاءِ وَالْأُنْسِ، فساكنه العبدُ وَاطْمَئِنُّ إلَيْه، واشْتَغل بِه عَنِ الْمَقْصُودِ، فيغارُ عَلَيْه مَوْلَاه الْحَقّ فَيخليه مِنْه وَيَرُدُّه حينئذ إلَيْه بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ والانكسار للطيف الخبير، وَذَرَّةٌ مَن هَذَا أَحَبُّ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَأَنْفَعُ لِلْعَبْدِ مَن الْجِبَالِ الرَّوَاسِي مَن ذَلِك الْأُنْسِ الْمُجَرَّدِ عَن شُهُودِ الْفَقْرِ.
ومن لطفه سبحانه ما حصل في قِصَّةَ إبراهيم الْخَلِيل -عَلَيْه السَّلَامِ- إذ غَارَ الْخَلِيلُ عَلَى خَلِيلِه أن يَكُونَ فِي قَلَبَه مَوْضِعٌ لِغَيْرِه، فَأَمَرَه بِذَبْح الْوَلَدِ لِيَخْرُجَ الْمُزَاحِمُ مِن قَلَبِه، فَلَمّا وطَّنَ نَفْسَهُ عَلى ذَلِكَ، وعَزَمَ عَلَيْهِ عَزْمًا جازِمًا حَصَلَ مَقْصُودُ الأمْرِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي إزْهاقِ نَفْسِ الوَلَدِ مَصْلَحَةٌ،ـ فَحالَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ، وفَداهُ بِالذِّبْحِ العَظِيمِ، وقيل له: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الـمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلَاءُ الـمُبِينُ﴾ [الصَّفات: 104-106].
اللهم الطف بنا والطف لنا، واجعلنا ممن يبتهل إليك بأحب أسمائك إليك، وَهَيّئ لَنَا مَن أَمَرِنَا رَشَدًا، يا لطيف يا خبير.
([1]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/14).
([2]) انظر: صفة الصفوة (2/247).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً، والصلاة والسلام على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، أما بعد:
أيها الأحبة: وَلُطْفُ الرَّبِّ تَعَالَى كَمَا يَتَجَلَّى فِي أَقْدَارِه فَإِنَّه يَظْهَرُ فِي شَرَائِع دِينِه الَّتِي وَضَعْهَا لعِبَادِه؛ دَالَّةً عَلَيْه سُبْحَانَه، شَاهِدَةً لَه بِكَمَال عِلْمِه وَحِكْمَتِه وَلُطْفِه بِعِبَادِه وَإِحْسَانِه إلَيْهِمْ، فَمَا شرائع دِيــنِه إلَّا اخْتِيَارُه تَعَالَى لعباده أَعْظَمَ المصَّالِحِ وَإِن فَاتَت أَدْنَاهَا، وَدَفْعُه عَنْهُم أَعْظَمَ الْمَفَاسِدِ وَإِن وقع أَدْنَاهَا.
وفِي نَفَحَاتِ اسْمِ اللَّهِ اللَّطِيفِ وروحانياتِه جَلَاءٌ لِلْحُزْنِ عَن قلبِ الْمُؤْمِنِ، وَوَقُودٌ لَه للمُضِيِّ قُدُمَا فِي الطَّرِيق بِثَبَات.
فِرَارًا مَن لَفَحَاتِ الْحَيَاةِ، ولهيبِ مُصَابِهَا، وفواجعِ دَهْرِهَا، يَرْفَعُ الْمُؤْمِن يَدَيْه: يَا لَطِيفْ، فَإِذَا باستشعاره لِمَعْنَاهَا يَتَبَدَّدُ الْأَسَى، ويصلح القلب، ثُمّ يَعُودُ أَقْوَى مما كانَ وَأجْلَد ما يكون.
وَبُلُوغُ الْمُؤْمِنِ لِمَرَاتِب الْيَقِين، وَحُسْنِ الظن بالله مَرْهُونٌ بِفِقْه اسم الله (اللَّطِيف).
والْعَبْدَ إِذَا عرف رَبَّه بِأَسْمَائِه وَصِفَاتِه وَأَفْعَالِه أحبَّه لا مَحَالَة؛ لِهَذَا كَان محورُ الرِّسَالَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وخلاصتها مَعْرِفَة الْعَبْدِ لِرَبِّه.
وَالْمُؤْمِنُ حِين يَعِيشُ فِي ظِلَالِ اسْمِ اللَّه (اللَّطِيفِ) فَإِنَّه يَتَحَرَّى اللُّطْفَ مَع خَلْقِ اللهِ؛ فَتَجِدُه سَهْلًا لَيِّنًا يَأْلَف وَيُؤَلَف، يحقق قول الله: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُم﴾ [الفتح: 29]، ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِين﴾ [المائدة: 54]، متأسّيًا بنبيه ﷺ الذي وصفته زوجه عائشة 1 أنه كان لطيفًا بها حين تمرض، كما أخرجه البخاري في صحيحه([1]).
وبعد أيها الإخوة في الله: فإِنَّ ما مَضَى غُرْفَة مَنْ بَحْر فِقْه اسْمِ اللَّهِ اللَّطِيف،ِ وَحَريٌّ لِمَنْ يَنْشُدُ لُطْفَ اللَّهِ أَنْ يَتَفَقَّهَ فِي اسْمِه اللَّطِيفِ، مُسْتَحْضِرًا أَنَّ فِقْهَ أَسْمَاء اللَّه الْحسنَى هُوَ الْفِقْهُ الْأكْبَر.
أخي المسلم: لَا تَنفكُّ لَحْظَةٌ مَنْ لَحَظَاتِكَ عَنْ لُطْفِ رَبِّكَ فَتَلَمّسْهَا وَلَا تَكُنْ غَافِلًا، إِنْ أَقْبلَتْ مُصِيبَةٌ فَابْحَثْ عَنْ لُطْفِ رَبِّكَ ففي بَطْنِ المحنةِ تكونُ المنحة، وَإِنْ عمَّتْك السَّرَّاءُ فَذَاكَ لُطْفٌ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى النَّاسُ مِنْ غفلتِهِمْ بالنّعَم عَنْ تَلَمُّس لُطْفِ اللَّه بِهُم.
أخيرًا -أيها الصَّفِيّ- حِينَ تَتَفَقَّهُ فِي بَابِ مِنْ أَبَوابِ الطَّاعَةِ فَلَا تَغَفلْ عَنْ لُطْفِ اللَّهِ بِالْعِبَادِ فِي تَشْرِيعِهِ لهُمْ، وإِنْ أَرَدتَّ أَنْ تَحْلُوَ لَكَ الْحَيَاة فَاعْبَدْ رَبَكَ بَاسِمِه اللَّطِيف، وَاهْتِفْ به دَومًا فِي مُرِّ الْحَيَاةِ وَحُلْوِهَا، مُسْتَجِيبًا لِنِدَاءِ اللَّطِيفِ: ﴿وَلِلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحسنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180].
اللَّهُمّ الْطُف بِنَا فِي تَيْسِيرِ كَلِّ عَسِيرْ، فَإِنَّ تَيْسِيرَ كَلّ عَسِيرٍ عَلَيْك يَسِير، وَنَسْأَلُك الْيُسْرَ وَالْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة([2]).
([1]) أخرجه البخاري (2661) ضمن حديث قصة الإفك الطويل.
([2]) الخطبة للشيخ عبداللطيف التويجري.