اسم الرءوف

اسم كاتب الخطبة: الخطبة للشيخ أحمد الطيار

الرؤوف

وفي هذا الاسم خطبة واحدة بعنوان: اسم الله الرؤوف

الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين، قيومِ السماوات والأرضين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسعت رحمته جميع المخلوقات، وامتدت نعمه وآلاؤه مَن في الأرض والسماوات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وذريته، وصحابته وأتباعه، ومن سار على نهجه واستنّ بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

 فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن لله تعالى أسماءً حسنى وصفاتٍ عليا، ومن أسمائه تبارك وتعالى: الرؤوف.

والرأفة: هي أشدُّ الرحمة، قال ابن جرير -رحمه الله-: "الرأفة أعلى معاني الرحمة، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا، ولبعضهم في الآخرة"([1]).

ومن رأفته ورحمته بعباده: أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها.

ومن رأفته: توفيقهم للقيام بحقوقه وحقوق عباده.

ومن رأفته ورحمته: أنه خوَّف العباد، وزجرهم عن الغي والفساد، كما قال تعالى لما ذكر العقوبات: ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر: 16].

فرأفتُه ورحمتُه سهَّلت لهم الطرق التي ينالون بها الخيرات، ورأفتُه ورحمتُه حذَّرتهم من الطرق التي تفضي بهم إلى المكروهات.

فنسأله تعالى أن يتمم علينا إحسانه بسلوك الصراط المستقيم، والسلامة من الطرق التي تفضي بسالكها إلى الجحيم.

 إخوة الإيمان: إن الحديث عن رأفة الله تعالى تغرس في القلوب حسن الظن بالله، وحسن الرجاء بما عند الله، وعدم اليأس والقنوط من رحمة الله.

قَالَ ﷺ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ: "لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"([2]).

معاشر المسلمين: خذوا صوراً من صور رأفةِ الله يوم القيامة، حيث تظهر في ذلك اليوم الرحمات، وتتجلى الأعطيات والهبات.

ثبت في الصحيحين أنَّ الله تعالى يأذن للمؤمنين بالشفاعة للعصاة يوم القيامة، ويأمرهم أنْ يُخرجوا من النار من في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: شَفَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، قَدْ عَادُوا حُمَمًا -أي: فحما-، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهْرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهْرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ في رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلاَءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، ثُمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: رِضَايَ، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا([3]).

إنها رحمة أرحم الراحمين، وكرمُ وجودُ أكرم الأكرمين.

وفي صحيح مسلم أنَّ مُوسَى -عليه السلام- سَأَلَ رَبَّهُ: مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَمَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ([4]).

وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا، رجل يخرج من النار كبوا، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيُخيَّلُ إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيُخيَّلُ إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثلَ الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك مثلَ عشرة أمثال الدنيا، فيقول: تسخر مني أو تضحك مني وأنت الملِك"، فلقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه، وكان يقول: "ذاك أدنى أهل الجنة منزلة"([5]).

فلا إله إلا الله، ما أرأَفك يا الله، وما أكرمك وأحلمك.

 هذا فعلك بأدنى أهل الجنة الذي كان من أعتى العصاة في الدنيا، فكيف فعلك بالصالحين والمؤمنين.

ولك أنْ تتخيل مدى اتساع الجنة وعظمتها وكِبرها، فإذا علمت أنّ مجرتنا وحدها تحمل أكثر من 300 مليار نجم، وطول قطرها ما يُعادل 70 ألف مليار كوكب أرض متراصة على خط واحد، وفي الكون آلاف المجرات، بل ذهب بعض الفلكيين إلى أنّ أعداد النجوم والمجرات في الكون كعدد حبات الرمال في الأرض، وكل هذه المجرات في السماء الدنيا فقط، قال تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ[الصافات: 6]، فكيف بالسماوات الأخرى.

فإذا كانت السماوات السبع بأفلاكها ونجومها وكواكبها والأرضين السبع بما فيها هي عرض الجنة، فكيف بطولِها وارْتفاعِها؟

وإذا كان آخر مَن يدخل الجنة هذا نعيمه وملكه، وهو الموّحد الذي قد أفرط في الدنيا في المعاصي والذنوب والتقصير، فكيف بأصحاب اليمين والسابقين، ما هو ملكهم؟ وما هو نعيمهم؟

قال ﷺ: "إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا تتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّريَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ مِنَ المشْرِقِ أَوِ المغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: "بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الـمُرْسَلِينَ"([6]).

وأما أعلى أهل الجنة منزلة فلا تسل عن النعيم والكرامة، فقد جاء في صحيح مسلم أن موسى -عليه السلام- سأل ربه: ما أعلى أهل الجنة منزلة، قال: أولئك الذين أردتُ، غرستُ كرامتهم بيدي، وختمتُ عليها، فلم ترَ عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر([7]).

قال بعض السلف: والله لو خيرت بين محاسبة الله إياي وبين محاسبة أبَوَيَّ لاخترت محاسبة الله على محاسبة أبَوَيَّ، وذلك أن الله تعالى أرحم بي من أَبَوَيَّ([8]).

وقال بعض العُبَّاد رحمه الله: لما علمت أن ربي عز وجل يلي محاسبتي زال عني حزني؛ لأن الكريم إذا حاسب عبده تفضل([9]).

اللهم يسر حسابنا، ويمن كتابنا، وتجاوز عن تقصيرنا وخطئنا، يا جواد يا كريم.

 

([1]) تفسير الطبري (2/654).

([2]) أخرجه مسلم (2877).

([3]) أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183) من حديث أبي سعيد الخدري t.

([4]) أخرجه مسلم (189).

([5]) أخرجه البخاري (6571)، ومسلم (186).

([6]) أخرجه البخاري (3256)، ومسلم (2831).

([7]) أخرجه مسلم (189).

([8]) أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» (6/251) عن حماد بن سلمة.

([9]) انظر: حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا (1/40).

الخطبة الثانية

الحمد لله الكريمِ الوهاب، وصلى الله على رسوله، وعلى آله وأصحابه أولي العقول والألباب، وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

 أيها المسلمون: وبعد أن سمعنا هذه الأحاديث والآثار عن رأفةِ الكريم الغفار هل يحق لنا أن نبقى مقصرين في حق الله؟

أما آن لنا أنْ نذُوقَ طعم الإيمان، ولذةَ التوبة والإنابة، فرحمةُ الله قريبٌ من الْمُحْسِنين.

صلى ابن المنكدر رحمه الله على رجل، فقيل له: تصلي على فلان؟ فقال: إني أستحي من الله أن يعلم مني أنَّ رحمته تَعجزُ عن أحد من خلقه([1]).

فرحمةُ الله قريبةٌ سهلة، ليست حكراً على أحد دون أحد.

فيا من أسرفتَ على نفسك بالمعاصي والذنوب، واقْترفت الموبقاتِ والعظائم، مهما عظم جُرْمك فربُّك رؤوف رحيم، فأقبل إليه تائبًا نادمًا، فسوفَ ترى بعد ذلك السعادة والأنسَ والراحةَ، وسترى كيف يَفْتَحُ الله عليك مِنْ فضله وجودِه.

فما أعظم التوبة، وما أجلَّ ثمارها، وما أحلى آثارها ونتائجها، وما أسعد التائبين، حيث تعرضوا لنفحات رب العالمين.

اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، وارزقنا لساناً طيباً، وكلاماً ليِّناً، وجنِّبنا الفحش في الأقوال والأعمال يا رب العالمين([2]).

 
 

([1]) أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» (3/148).

([2]) الخطبة للشيخ أحمد الطيار.

عدد الكلمات

1955

الوقت المتوقع

32 د


منبر الحسنى

تاريخ الطباعة/التصدير: 2025-11-14 16:20م