الوارث
وفي هذا الاسم خطبة واحدة بعنوان: اسم الله الوارث
الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
معاشر المؤمنين: إن معرفة العباد بأسماء ربهم وصفاته تبصرهم بنقائص نفوسهم وعيوبها وآفاتها، فيجتهد كل عبد في إصلاحها.
وأركان الآفات التي تصيب العبد أربعة: الكبر، الحسد، الغضب، الشهوة، ومنشأ هذه الأربعة جهل العبد بربه وجهله بنفسه، فإنه لو عرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وعرف نفسه بالنقائص والآفات لم يتكبر، ولم يغضب لها، ولم يحسد أحدًا على ما آتاه الله؛ لعلمه علم اليقين أن الأمر بيد الله وحده سبحانه وتعالى.
ومن أسماء الله التي ينبغي أن نتدبر معناها ودلالتها وآثارها اسم الله الوارث.
يقول الخطابي: "الوارث: هو الباقي بعد فناء الخلق، والمستردُّ أملاكَهم وموارثَهم بعد موتهم، ولم يزل الله باقيًا مالكًا لأصول الأشياء كلِّها، يورِّثها من يشاء، ويستخلف فيها من أحب"([1]).
ويقول ابن الأثير: "الوارث: هو الذي يرث الخلائق، ويبقى بعد فنائهم"([2]).
وقد ورد اسم الله الوارث في ثلاث آيات من كتاب الله، وهي:
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾ [الحجر: 23].
وقوله: ﴿وزكريا إذ نادى ربه رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ [الأنبياء: 89].
وقوله: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 58].
يقول أبو السعود في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾ [الحجر: 23] أي: الباقون بعد فناء الخلق قاطبة، المالكون للمُلك عند انقضاء زمان الـمُلك، الحاكمون في الكل أولاً وآخراً، وليس لهم إلا التصرف الصوري([3]).
ويقول البغوي في تفسير قوله تعالى: ﴿وزكريا إذ نادى ربه رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ [الأنبياء: 89]: "أثنى على الله بأنه الباقي بعد فناء الخلق، وأنه أفضل من بقي حياً"([4]).
ويقول الطبري في بيان معنى قوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 58]: "ولم يكن لِـما خَرَّبنا من مساكنهم منهم وارثٌ، وعادت كما كانت قبل سكناهم فيها، لا مالك لها إلا الله، الذي له ميراث السماوات والأرض"([5]).
وورد الوارثُ في موضع واحد من القرآن بصيغة الفعل في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ [مريم: 40]، قال ابن جرير: "ونحن نرِثُ الأرض ومَن عليها، بأن نُميتَ جميعَهم فلا يبقى حيٌّ سوانا إذا جاء ذلك الأجل"([6]).
وقال الزَّجَّاجي: "الله عز وجل وارث الخلْق أجمعين؛ لأنَّه الباقي بعدهم وهم الفانون"([7]).
عبـــــاد الله: إن لكل اسم من أسماء الله دلالاتٍ تزيد في الإيمان واليقين، وتورث صاحبها السعادة والرضا، واسم الله الوارث له دلالات عظيمة، فمن ذلك:
أن اسم الله الوارث يبين عظمة الرب سبحانه، وأنه عز وجل مالك الملك ووارثه والمتصرف فيه، وأن كل شيء دونه إلى فناء.
إلى جانب أنه يكشف حقيقة التملك عند الخلائق، فملكهم إلى زوال، وهو ملكٌ ناقصٌ ولحظيٌّ غيرُ دائم، ناقصٌ من ناحية الكمّ إذ يبقى محدوداً بما وهبه الله، ومن ناحية القدرة على التصرّف فيه شرعاً وقدراً، ولحظيٌّ مآله إلى زوال، ثم يتركه إلى ورثته، بينما نجد أن ملك الله شاملٌ كاملٌ لا يعتريه نقص، وباقٍ دائمٌ لا يعتريه زوال، فهو الوارث على جهة الشمول والكمال، وهذا يجعلنا نستحضر عظمة الله سبحانه، وأنه الوارث لكل شيء.
ويُحكى أن أميرا خرج في رحلة صيد فمرّ برجل قد اعتزل الناس وعاش وحيداً، فقال له الأمير: عظني، فقال الرجل: أين آباؤك وأجدادك من لدن رسول الله ﷺ إلى أبيك؟ قال: ماتوا، قال: فأين قصورهم؟ قال: تلك قصورهم، قال: وأين قبورهم؟ قال: هذه قبورهم، فقال: تلك قصورهم، وهذه قبورهم، فما نفعتهم قصورهم في قبورهم؟ قال: صدقت، زدني، قال: أما قصورك في الدنيا فواسعة فليت قبرك بعد الموت يتسع، فبكى الأمير، وقال: زدني، فقال: قد ولاك الله فلا يرى منك تقصيرا ولا تفريطا، فزاد بكاؤه، وقال: زدني، فقال: أيها الأمير:
هب انَّك قد ملكت الأرض طرا *** وعدان لك العباد فكان ماذا
أليس غدا مصيرُك جوفَ قبر *** ويحثو التُرب هذا ثم هذا
ومن دلالات اسم الله الوارث: أنه سبحانه الَّذي يُورث الأرْضَ مَن يَشاء من عباده، قال تعالى عن نبيّ الله موسى وهو يُخاطب قومَه: ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128].
وقال تعالى عن فرْعون وقومِه لـمَّا عصَوُا الله وخالفوا أمره: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الدخان: 25-28]، وقال سبحانه عن بني إسرائيل: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 5].
فالأرض لله، والملك لله، يورث كل ذلك من شاء من عباده إذا أدوا ما عليهم من واجبات العبودية تجاه ربهم، قال تعالى: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [الأحزاب: 27].
وإذا كانت الأرض لله يورثها من يشاء من عباده لأنه الوارث سبحانه فإنه قد جعل الجنَّة ثوابًا للمتَّقين، وهو يُورثهم إيَّاها، قال تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 43]، وقال سبحانه: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾ [مريم: 63]، وقال تعالى عن المؤْمِنين بعدما ذكر جملةً من صفاتِهم: ﴿أولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون:10-11].
نسأل الله أن يستعملنا في طاعته، وأن يجنبنا معصيته، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
([1]) شأن الدعاء (ص96، 97).
([2]) النهاية في غريب الحديث والأثر (5/172).
([3]) انظر: تفسير أبي السعود (5/73).
([4]) تفسير البغوي (3/315).
([5]) تفسير الطبري (18/290).
([6]) تفسير الطبري (14/47).
([7]) اشتقاق أسماء الله الحسنى (ص173).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وعلى أمره قامت الأرض والسماوات، والصلاة السلام على من أرسله ربه هاديا ومبشراً ونذيراً، أما بعد:
أيها المسلمون: لا شك أن لأسماء الله آثاراً في حياة العباد تظهر في إيمانهم وسلوكياتهم وأخلاقهم، ولاسم الله الوارث عدة آثار، فمن ذلك:
الثبات على الحق، وعدم اليأس من انتفاش الباطل وسطوته، أو الحزن من تسلّط أعداء الرسالات والمتآمرين على شريعة الله، فإنهم مهما طغوا وتجبّروا، وعتوا عما نهوا عنه، وتنكّبوا سبيلَ الحق، وأمعنوا في عداوة الصالحين ومحاربتهم بشتّى الوسائل، فإن مصيرهم إلى زوال، وليس لهم إلا هذا النطاق الزمني اليسير ليستكبروا بغير الحق، ويتحكّموا في رقاب الناس، ثم يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها، وإليه يُرجعون.
فالعاقبة للمتقين، وما على المؤمنين سوى الاستعانة بالله جلّ وعلا، والتوكّل عليه، والصبر، وهذا هو عين ما دعا إليه موسى -عليه السلام- حين خاف أتباعُه من بطش فرعون وقومه، ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128].
ومن الآثار: أن النصر مع الصبر، وأن التمكين مع الثبات، وأن العطاء الجميل لا يكون إلا من مَلِك متصرف وارثٍ لكل شيء، قال تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [الأعراف: 137].
ومن ذلك: استنهاض الهمم في مجالات الخير، لاسيما الإنفاق في سبيل الله؛ انطلاقاً من الإدراك العميق بأن ما بين أيدينا من الأموال إنما هي ودائع استخلفنا الله تعالى عليها لينظر كيف نتصرّف فيها ونتعامل بها.
وما المال والأهلون إلا ودائع *** ولابد يوماً أن تردّ الودائع
فهو ترغيبٌ في إنفاق المال في وجوه الخير، وعدم البخل به واكتنازه، ويرشدنا إلى ذلك قول النبي ﷺ: "يقول العبد: مالي، مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس"([1]).
اللهم اجعلنا ممن يرثون الأرض ويعمرونها بطاعتك، واجعلنا من ورثة جنتك مع الصالحين من عبادك.
هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين([2]).
([1]) أخرجه مسلم (2959).
([2]) الخطبة من ملتقى الخطباء، الفريق العلمي.