اسم المؤمن

اسم كاتب الخطبة: ملتقى الخطباء، الفريق العلمي

المؤمن

وفي هذا الاسم خطبتان

الخطبة الأولى بعنوان: إبلاغ المأمن في شرح اسم الله المؤمن

الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين، وهادي المؤمنين، ومرشد الحيارى والضالين، قابل التوب وغافر الذنب، مجير المظلومين، وكاسر رقاب الجبارين، الموصوف بأحسن الأسماء وأعلى الصفات، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، يمينه ملأى بالخيرات والعطايا، لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه، والعاقب الذي لا نبي بعده، والقاسم الذي سار بالعدل بين الناس، نبينا محمد صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ما تلألأت النجوم، وسارت الغيوم، ونامت العيون، أما بعد:

عباد الله: أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله عز وجل في كل حين، وعلى كل حال، في الخلوة والجلوة، والسفر والحضر، والسراء والضراء، والرضا والغضب، فهي خير الوصايا من رب البرايا.

عباد الله: إن الصدق من أعظم منازل الإسلام وأعلى درجات الصالحين، الصدق قيمة عظمى في حياة الفرد والجماعة، وركيزة أساسية في السير إلى مرضاة الله، فالصدق قنطرة الجنة، وجُنَّة يستجن بها العبد من النار، لذلك أمر الله عز وجل عباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119]، وسمى خير خلقه بعد رسله المهاجرين بالصادقين فقال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر: 8]، وكثير من الناس لا يدركون هذه القيمة جيدا فيجعلونها حسب الأهواء والأحوال، فيصدق ما دام الصدق مربحا ومفيدا له، ويكذب إذا رأى أو ظن أن الكذب ينجيه.

ولعظم أمر هذا الخُلق العظيم وأهميته في حياة العبد والجماعة والأمة كلها اشتق الله عز وجل من هذه الصفة اسما من أسمائه الحسنى يغفل عن معانيه ودلالاته وفقهه كثير من الناس، وهو اسم الله المؤمن.

وقد ورد اسم المؤمن مرة واحدة في كتاب الله في قوله: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ [الحشر: 23]، وأسماء الله تعالى فيها الكثير من المدلولات والمعاني، وبالتالي تحتاج لمزيد فهم وعلم ومعرفة؛ لاستخراج كنوزها واقتناء دررها.

والمؤمن من الإيمان والأمن، والأمن يقابل الخوف، والإيمان هو التصديق وضده التكذيب، قال الله عز وجل: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف: 17]، والمؤمن من جهة إطلاقه على الله عز وجل يدل على ذات الله، وعلى صفة الصدق كوصف ذات، قال تعالى: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ [آل عمران: 95]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً [النساء: 87]، وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأى الـمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ [الأحزاب: 22]، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالحَقِّ [الفتح: 27]، وقال أهل الجنة بعد دخولها: ﴿الحَمْدُ لِلهِ الذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ [الزمر: 74].

واسم الله المؤمن له معنيان كبيران، كل واحد منها يحمل كثيرا من الدلالات والمضامين الهامة:

أولهما: التصديق الذي ضده الكذب، فهو تبارك وتعالى مؤمن بكل ما دعانا إلى الإيمان به، فهو مؤمن أنه موجود، ومؤمن بأنه واحد أحد، ومؤمن أنه لا إله سواه، حيث قال جل وعلا: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18]، وهو أول مؤمن بوحدانيته وألوهيته، وله المثل الأعلى، فقد جعل قضية الخلق هي شهادة ألا إله إلا الله وأنه لا معبود بحق سواه، وجعل الأحكام الشرعية هي المنهج المقرر على طلاب السعادة في الدنيا، فإذا أهملوا ذلك جعلوا سعادتهم في عبودية الشهوات، واتباع الشبهات، وتناسوا مرحلة الابتلاء والكفاح والرغبة في النجاح والفلاح، وتسببوا في ضلالهم، ثم أعلنوا زورا أنهم كانوا على صواب، فكذبوا على أنفسهم، فهنا يشهد أولوا العلم والملائكة بضلال المشركين وصحة ما جاء عن رسلهم.

وأخبر تعالى أنه سَيُري خلقه علامات وحدانيته ودلائل إلهيته وعظمته في تركيب أنفسهم، وفي سعة أرضهم، وآفاق سمائهم، فقال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53].

وكذلك الله جل وعلا هو المؤمن المصدّق بذاته العلية، وهو المؤمن بصفاته الكاملة المطلقة، والمؤمن بأفعاله الحكيمة.

وهو الذي صدّق رسوله محمداً كما في قوله: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الفتح: 27]، وجعل الناس يصدقونه بما أمده من المعجزات التي أجراها على يديه، وبعث موسى نبياً وصدّقه بالمعجزات، وأرسل عيسى رسولاً وصدقه بالمعجزات، وجميع الأنبياء والرسل، وجعل هذه المعجزات علامة على صدق دعوتهم وصحة رسالتهم.

بل وجعل الرسل يصدّق بعضهم بعضا، كما قال عن نبيّه محمد ﷺ: ﴿بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 37]، وجعل لرسله لسان الصدق بين الخليقة أجمعين، قال تعالى عن آل إبراهيم: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً [مريم: 50]، وقال إبراهيم عليه السلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84].

وقد يكون تصديق الله لأوليائه بإظهار الكرامات على أيديهم، وشواهد ذلك آيات عديدة مبثوثة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وفي التاريخ العظيم وسير الأولياء من سير الجيش على الماء، وتكلم الحيوان البهيم بلسان عربي مبين، والصوت العابر للآفاق الخارق للجبال، ومن عدم التأثر لشرب السم، والانتصارات المتوالية وغيرها من القصص التي رويت لنا بالتواتر، وما زالت هذه الكرامات ممتدة ومستمرة حتى يومنا الحالي؛ لأن مدد الرحمن لا ينقطع عن عباده الصادقين.

والله تعالى يصْدقُ مع عباده المؤمنين في وعده، قال تعالى: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم: 42]، فهو ينجز لعباده ما وعدهم، ووعوده محققة، وتأتي أفعاله مصدقة لوعوده، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَاد [آل عمران: 9]، وقال تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ [الأعراف: 44]، وحكى قول أهل الجنة لما دخلوها: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ [الزمر: 74]، فإنهم لما قاموا بالشرط وفّى لهم الله بالمشروط، ولما تحققت فيهم الواجبات أدى الله لهم الحقوق، ولما حرصوا على بذل الأسباب ضمنوا الوفاء.

عباد الله: ومن نظر في سيرة النبي ﷺ وخلفائه الراشدين علم صدق وعد الله لعباده المخلصين، فعن عبد اللَّهِ بن مسعود t أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا قَفَلَ كَبَّرَ ثَلَاثًا، قَالَ: "آيِبُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، حَاِمدُونَ لِرَبِّنَا، سَاجِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَه"([1]).

ومن دلالات اسم الله المؤمن أنه يصدق ظنون عباده المؤمنين ولا يخيب آمالهم، قال تعالى: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ، وعن واثلة وأبي هريرة 5 قَالَا: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي"([2])، وعَنْ ابْنِ عُمَرَ 5 قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّه ﷺ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى دَرَجَةِ الْكَعْبَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ"([3])، والمعنى أن الله هو الذي صدق في وعده، وهو عند ظن عبده لا يخيب أمله ولا يخذل رجاءه، فلا تكن سيء الظن بربك يا عبد الله، وكن واثقا بنصره ومدده ومعيته وحكمته وعونه لعباده المؤمنين.

أيها المسلمون: والمعنى الآخر من معاني اسم الله المؤمن: الأمان وهو ضد الإخافة، وله صور عديدة ومعاني فريدة، منها:

أنه يؤمّن عباده من كل خوف، قال تعالى: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 4]، والأمان ضد الخوف، وفي التنزيل: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 3]، أي: الآمن، يعني مكة، وقال إبراهيم عليه السلام لقومه: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام : 82]، وقوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62].

والله المؤمن سبحانه لا يؤمّن عباده من مخاوف الدنيا فحسب، بل يؤمنهم من هلع يوم القيامة وفزعه، قال الحق: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النمل: 89]، وقوله تبارك وتعالى: ﴿أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [فصلت: 40]، ويؤمنهم من عذاب جهنم، قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء: 103].

يا مُــؤمِــنـاً عــبـدهُ في كل نازلة *** ونـــاشراً عــدلــه في كـل مــيــدانِ

وباسِـطـاً فــضـلــهُ دنـيــا وآخـــرةً *** وحافظًا خلقه من شر طغيانِ

عُدنا إليك فهبنا منك مغفرة *** تمحو بها كل تقصيرٍ وعصيانِ

ومن صور تأمين الله للخلق أنه الذي يجير ويؤمّن المظلوم من الظالم، بمعنى أنه يؤمنه من الظلم وينصره، قال تعالى: ﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون [المؤمنون: 87]، فهو يعطى الأمان لمن استجار به واستعان، وتوكل عليه.

عباد الله: ما أجمل هذه المعنى الذي فسر به العلماء والعارفون اسم الله المؤمن، وهذا المعنى تحديدا لو استقر في قلوب وعقول الناس وأيقنوا أن الأمن منه سبحانه فإنهم لا يخافون من طاغية مستبد أو ظالم غشوم، فالأمن من الله المؤمن وحده، والأمر كله بيده سبحانه

ونلمح هذا المعنى العظيم الساكب للطمأنينة في النفوس والقلوب في قوله تعالى: ﴿قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة: 22].

وقد سئل أحد السلف، يا إمام من هو الله؟، فقال: ألم تركب البحر؟ قال: بلى قال: هل حدث مرة أن هاجت الريح عاصفة؟ قال: نعم، قال: وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة؟ قال: نعم، قال: فهل خطر في بالك أن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟ قال: نعم، قال: ذلك هو الله المؤمن سبحانه، ويصدق هذا قول الله عز وجل: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُورًا [الإسراء: 67].

اللهم أمنا يوم الفزع الأكبر، وأسعدنا يوم الحزن، وأكرمنا يوم التغابن، واجعلنا من الآمنين المطمئنين في الدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

([1]) أخرجه البخاري (3084)، ومسلم (1344).

([2]) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675).

([3]) أخرجه النسائي (4799)، وابن ماجه (2628).

الخطبة الثانية

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، له الأسماء الحسنى والكمالات العلا، رب رحيم، أسبغ النعم، ورفع النقم، والصلاة والسلام على النبي الذي ربى جيل القمم، وعلى آله وصحبه وسلم.

أيها المسلمون: إن اسمَ الله المؤمن يسكب في قلب المسلم الأمن والطمأنينة، ويعلمه فضيلة الصدق العظيمة التي تعتبر من أهم ركائز الحياة الطيبة، والذي يضمن بها الأمن والأمان في الدنيا والآخرة، لذلك فإن الحياة في ظلال فقه وفهم اسم المؤمن تجعل الإنسان يفكر بأسلوب مختلف، ويكوِّن فكرة أعمق تجاه عوارض الحياة، تجعله يفهم وعود الله كما ينبغي، يعرف أن نقطة البداية والنهاية هي الفهم والفقه، وما وقر منهما في القلب والعقل، فيستضيء طريقُه ويُـــنير دربُه بهذه المعارف الربانية.

ومن تلك المعارف: موافقة الأعمال للأقوال، فيجب أن يكون عمل المؤمن مصداقا لعبارته، لا للازدواجية، فلا يوجد ظاهر وباطن، ولا يوجد سريرة وعلانية، ولا يوجد موقف غير معلن وموقف معلن، بل ينبغي أن يكون في الجلوة كالخلوة، وهذا هو عنوان الصدق ودليله، فالظاهر مستقيم ملتزم بأوامر الله ونواهيه، وكذلك الباطن طاهر من الغوائل، فطهارته من الحسد، والغيبة، والكبر، والنميمة، والكذب، والحقد، والضغينة، هذه كلها من بواطن الإثم، قال سبحانه: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام: 120]، عندها يجد الإنسان معنى الحياة في ظل اسم المؤمن، وصدق الشاعر إذ يقول:

مـــن خـــالــفــت أقــوالُـــه أفعـــالَه *** تحولت أفعالُه أفعى له

من أظهر السر الذي في صدره *** لغيره وهاله وهى له

من لم يكن لسانه طوعاً له *** فتركه أقوالَه أقوى له

ومن المعارف ثانيا: أن يأمن الناسُ جانبك، فالمؤمن لا يكون صاحب غدر، ولا خيانة، ولا إيقاع أذى بالغير، ولا يستخفي عن أعين الناس وينسى مراقبة الله له ويستخف بربه المطلع عليه فيستضعف طائفة من الناس ويتسلط عليهم لا يرقب فيهم إلاً ولا ذمة، ظانا أن الله لا يطلع عليه، وقد ورد عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ"، قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائقَهُ"([1])، أي: شروره وأذاه، وليس هذا من أخلاق؛ لأن المؤمن جانبه مأمون.

وقد بين الدين تعايش المسلم مع غيره، فجاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ"([2])، وقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ"([3])، ومن حديث أبي هريرة t قال: قيل للنبي ﷺ: يا رسول الله، إنّ فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعل، وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله ﷺ: "لا خير فيها، هي من أهل النار"، قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصَّدّق بأثوارٍ -جمع ثور: القطعة من الأقط، وهو الجبن المجفف الذي يتخذ من مخيض لبن الغنم-، ولا تؤذي أحداً؟ فقال رسول الله ﷺ: "هي من أهل الجنّة"([4])، وهذا الحديث يدل على أن كثرة العمل الصالح مع أذية الناس لا ينفع العامل شيئاً، فما يُلْحِقهُ من الأذى بالآخرين يضيع عليه حسناته، ويطغى على أعماله الصالحة، وأن العمل اليسير الصالح مع الإيمان باسم الله المؤمن والعمل بمقتضاه ينفع صاحبه.

فالواجب على المسلم الصالح أن يكون أمانا للمسلمين جميعا، فإنه يحرم ترويع المسلم وتخويفه، ولو كان على وجه المزاح واللعب، كما قَالَ ﷺ: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا"([5])، وجاء من حديث أبي هريرة t عن النبي ﷺ قال: "لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعلَّ الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة في النار"([6])، فالشرع يغلق أي باب يؤدي لضياع الأمن وانعدامه بين الناس؛ صيانةً لقيمة الأمن والأمان الكبرى.

ومن المعارف ثالثا: استحضار نعمة الله علينا بالأمن والأمان، فإن من أعظم النعم بعد الإيمان الأمن والعافية، والأمن طمأنينة القلب وسكينته وراحته وهدوؤه، فلا يخاف الإنسان مع الأمن على الدين، ولا على النفس، ولا على العرض، ولا على المال، ولا على الحقوق، فما قيمة المال إذا فُقِد الأمن؟! وما طيب العيش إذا انعدم الأمن؟!

الأمن تنبسط معه الآمال، وتطمئن معه النفوس، وتتعدد أنشطة البشر النافعة مع الأمن، ويتبادلون المصالح والمنافع، وتكثر الأعمال، وتدر الخيرات والبركات مع الأمن، وتأمن السبل، وتتسع التجارات، وتُشيد المصانع، ويزيد الحرث والنسل، وتحقن الدماء، وتحفظ الأموال والحقوق، وتتيسر الأرزاق، ويعظم العمران، وتسعد وتبتهج الحياة في جميع مجالاتها مع الأمن.

وقد امتنّ الله على الخلق بنعمة الأمن، قال تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـذَا ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش: 3-4]، وفي حديث عبيدالله بن مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا"([7])، ومعنى حِيزَتْ: جُمِعَتْ.

عباد الله: فقه العبد لاسم الله المؤمن يجعل العبد على يقين من أن ربه لا يظلم أحدا من خلقه، يجعله يثق أن وعد الله لعباده المؤمنين كائن لا محالة، وأنه سينصر المظلوم ولو بعد حين، فيعمل عمل المؤمنين ويسلك سبيل الموحدين.

وأمنا أم المؤمنين عائشة 1 تضرب لنا المثال السامي في هذا اليقين والفهم لأسماء الله وصفاته، واسم المؤمن تحديدا، وذلك في حادثة الإفك، فقد ثبت في الحديث أن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ لها: "يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَقالْتُ: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، وَوَقَرَ في أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَبَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّى بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ، قالت: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللَّهُ، وَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ"([8]).

وتحملُّها وعدمُ انزعاجها كان نتيجة إيمانها بالله، وباسمه المؤمن أنه سيصدقها وسيبرؤها، فربنا المؤمن يدافع عن الذين آمنوا عن أموالهم وأعراضهم.

فمن أمل في الله لم يقنِّطه، ومن رجاه لم يخيِّبه، ومن طرق بابه لم يردَّه، ومن دعا الله باسمه المؤمن أزال عنه الخوف، وأمنه في الدنيا والقبر والقيامة، وأشعره بالأمان، وحفظه الله تعالى من كل سوء، وجعله مؤمنا حقا، فليهنأ عيشُك، وليطمئن قلبك فإن الله معك، ومن كان مع الله فلا يبالي بالدنيا وحطامها الزائل، وطوارئها وحوادثها وأحزانها.

اللهم عمّر قلوبنا بصدق الإيمان، ونور اليقين، وآمنا في أوطاننا، واحفظنا في أهلينا وذرارينا.

 اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنتَك، ومن اليقين ما تُهون به علينا مصائبَ الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارِنا وقوتنا ما أبقيتنا، واجعلهُ الوارثَ منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصُرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتَنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبرَ همِنا، ولا مبلغَ علمِنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا، ولا تُسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كلِ شر.

اللهم إنا نسألك فعلَ الخيرات، وتركَ المنكرات، وحبَ المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وتتوب علينا، وإذا أردت بقومٍ فتنةً فتوَفنا غير مفتونين، ونسألك حبَك، وحبَ مَن يُحبك، وحب عملٍ يقربنا اٍلى حبك، يا رب العالمين.

اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم، وارحمهم، وعافهم، واعف عنهم، وأكرِم نزلَهم، ووسِع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وارحمنا اللهم برحمتك إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، تحت الجنادل والتراب وحدنا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين([9]).

 
 

([1]) أخرجه البخاري (6016).

([2]) أخرجه الترمذي (2627)، والنسائي (4995).

([3]) أخرجه أحمد في «المسند» (23958).

([4]) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (119).

([5]) أخرجه أبو داود (5004).

([6]) أخرجه البخاري (7072)، ومسلم (2617).

([7]) أخرجه الترمذي (2346)، وابن ماجه (4141).

([8]) أخرجه البخاري (2661)، ومسلم (2770).

([9]) الخطبة من ملتقى الخطباء، الفريق العلمي.

عدد الكلمات

4914

الوقت المتوقع

21 د


منبر الحسنى

تاريخ الطباعة/التصدير: 2025-11-14 16:16م