اسم الحيي

اسم كاتب الخطبة: الخطبة للشيخ شريف فوزي سلطان

الحيي

وفي هذا الاسم خطبة واحدة بعنوان: اسم الله الحيي

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70-71]، أما بعد:

روى يَعْلَى بن أمية t أنَّ رسول الله ﷺ رأى رجلًا يغتسل بالبَراز بلا إزار، فصعِد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن الله عز وجل حَييٌّ سَتِير، يحبُّ الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر"([1]).

وعن سلمان t أن النبيَّ ﷺ قال: "إن ربكم تبارك وتعالى حييٌّ كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا"([2]).

عباد الله: من أسماء ربنا الحسنى التي بلغت في الحسن غايته اسم الحيي، والحيي كثير الحياء، فهو الموصوف بالحياء الكامل الذي يليق به سبحانه وتعالى، حياء ليس كحياء المخلوقين، بل هو حياء الكمال والجلال.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "‌وأما ‌حياء الرب تعالى من عبده فذاك نوع آخر، لا تدركه الأفهام، ولا تكـيّـفه العقول، فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال"([3]).

فهو الذي يستحيي ألا يجيب عباده، وألا يعطيهم ما سألوا.

وهو الذي يستحيي مِن هَتْك العاصي وفضيحته وإحلال العقوبة به، فيستره ويعفو عنه، ويغفر له، ويتحبَّب إليه بالنِّعَم، ويستحيي من فضحه يوم القيامة بعد أن ستره في الدنيا.

وهو الحيي فليس يفضح عبده *** عند التجاهر منه بالعصيان

لكن يلقي عليه ستره *** فهو السَتِير وصاحب الغفران

أيها المؤمنون: إن الإيمان باسم الله الحيي يدعو المؤمن إلى التخلق بهذا الخلق العظيم، والمقام الكريم، ألا وهو الحياء.

قال ابن القيم عليه رحمة الله: "من ‌وافق ‌الله ‌في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامه، وأدخلته على ربه، وأدنته منه، وقربته من رحمته، وصيرته محبوبا له، فإنه سبحانه رحيم يحب الرحماء، كريم يحب الكرماء، عليم يحب العلماء، قوي يحب المؤمن القوي، وهو أحب إليه من المؤمن الضعيف، حيي يحب أهل الحياء، جميل يحب الجمال، وتر يحب الوتر"([4]).

الحياء في العبد خُلُق جميل، يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حقِّ كل ذي حقٍّ.

انظر كيف صوَّر القرآن الكريم خُلُق الحياء في قصة موسى عليه السلام مع ابنتي الرجل الصالح اللتين خرجتَا مِن بيتٍ كريم ينضح بالعفاف والطهارة والصيانة وحسن التربية.

قال تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٍ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[الأحزاب: 23-25].

﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ولم يزدْ على ذلك، فلم يسألهما عن اسميهما، ولا عن أبيهما، وهل الأغنام ملك لهما أم لهما فيها شركاء، وعما إذا كانتا أو إحداهن متزوجة أم لا، كما يفعل بعضُ الناس اليوم ويعتبرونه مِن مزايا التحضُّر والاندماج الاجتماعيِّ.

وكذلك الحال في موقف ابنتي الرجل الصالح، إذ كان جوابهما موجزًا على قَدْر السؤال: ﴿قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾، فذكرتا مع جوابهما سبب خروجهما.

فسقى لهما، وانصرفتَا إلى بيتهما، ثم رجعت إحداهما إليه برسالةٍ من أبيها، وانظر كيف وصف القرآن ذاك الرجوع: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ، كأنما الحياء فراش وهي تسير عليه.

قال عمر بن الخطاب t: ‌"جاءت ‌تمشي ‌على ‌استحياء، قائلة بثوبها على وجهها، ليست بسَلْفَعٍ [أي: جريئة] خرَّاجة ولَّاجة"([5]).

عباد الله: يقول النبي ﷺ: "الحياء من الإيمان"([6])، ويقول: "إن مما أدرك الناسُ من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنَعْ ما شِئتَ"([7])، والمعنى: أن هذا الكلام كان على لسان كلِّ نبيٍّ لم يُنسخ، بل تداوَلَهُ الناس وتوارثوه وتواصَوا به قرنًا بعد قرن.

ومعناه كذلك: أن الحياء يتحكَّم في أقوال العبد وأفعاله وتصرُّفاته، فلا يقول القبيح، ولا يفعله، ولا يتحرَّك إليه.

ويقول عمر بن الخطاب t: "الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر"([8]).

إذا لم تخش عاقبة الليالي *** ولم تستحيي فاصنع ما تشاء

فلا والله ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

وأعظم من يستحيا منه هو الله جل جلاله، فيستحيي العبد أن يكون على حالةٍ مشينةٍ يكرهها الله، وعلى حسب معرفة العبد بربِّه وأسمائه وصفاته يكون حياؤه منه.

فعن عبدالله بن مسعودٍ t قال: قال رسول الله ﷺ: "استحيُوا من الله حقَّ الحياء"، قال: قلنا: يا رسول الله، إنَّا لنستحيِي والحمد لله، قال: "ليس ذاك، ولكنَّ الاستحياءَ من الله حقَّ الحياء أن تَحفظ الرَّأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتتذكَّر الموت والبِلَى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدُّنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقَّ الحياء"([9]).

فهل استحيا من الله حق الحياء مَن تَهاوَن بأكل الحرام، وسَماع الحرام، وأطلَق لسانَه يهري ويهرف بالحرام، من غِيبة، ونميمة، وكذب، وشهادة زور، وقول على الله بغير عِلم، وانتهاك لحرمات المسلمين والمسلمات، واختلاق للأكاذيب والشائعات!

وهل استحيا من الله حق الحياء مَن أطلق بصره إلى ما حرَّم الله، وتسكَّع في الطرقات ينظر إلى الرائحات والغاديات، وامتلأ قلبه وهاتفه وبيته بالأفلام الهابطات!

وهل استحيا من الله حق الحياء مَن يسمح لزوجته أو بناته أن يكُنَّ خرَّاجات ولَّاجات، يصافِحْنَ الرجال، ويختلطْنَ بالرجال بلا مسوِّغ ولا موجب!

وهل استحيا من الله حق الحياء مَن رضي لزوجته أو بناته أن يخرجنَ متبرِّجات، متعطِّرات، متجمِّلات، مظهِرات للزينات!

وهل استحيا من الله حق الحياء مَن لا يعرف عن الإسلام إلا اسمه، وعن القرآن إلا رسمه، بل لا يعرف الواحد منهم فروض الأعيان التي سيُسأل عنها بين يدي الله، في الوقت الذي يعرف كل شيء عن كل شيء!

ومن الحياء المحمود: الحياء من الملائكة الكرام، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار: 10-12]، قال ابن القيم في معنى الآية: "استحيوا ‌من ‌هؤلاء الحافظين الكرام، وأكرموهم، وأجلوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن يراكم عليه من هو مثلكم، والملائكةُ تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يفجر ويعصي بين يديه، وإن كان يعمل مثل عمله، فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين!"([10]).

وقال سفيان الثوري يوما لأصحابه: أخبروني ‌لو ‌كان ‌معكم ‌من ‌يرفع الحديث إلى السلطان، أكنتم تتكلمون بشيء؟ قالوا: لا، قال: فإن معكم من يرفع الحديث إلى الله عز وجل([11]).

ومن الحياء المحمود: أن يستحي العبد من الخلق أن يروه على فعلٍ قبيح، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ[الأحزاب: 53]، وفي صحيح البخاري أن النبيَّ ﷺ قال: "إن موسى كان رجلًا حييًّا ستيرًا لا يُرى من جلده شيء؛ استحياءً منه"([12]).

ومن الحياء المحمود: أن يستحي الإنسان من نفسه، وهو حياء النفوس الشريفة العزيزة، فيجد الإنسان نفسه مستحييًا من نفسه حتى كأن له نفسين يستحيي بإحداهما مِن الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيا مِن نفسه فهو بأن يستحيي من غيره أجدر.

ولهذا قيل: من عمل عملًا في السرِّ يستحيي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قَدْر([13]).

واعلم أخي الحبيب -رُزقتَ الحياء بأنواعه- أن المرء حينما يفقد حياءه من نفسه يتدرَّج من سيء إلى أسوأ، ويهبط من رذيلة إلى أرذل، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل، عياذا بالله تعالى.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم

 

([1]) أخرجه أبو داود (4012)، والنسائي (406).

([2]) أخرجه أبو داود (1488)، والترمذي (3556)، وابن ماجه (3865).

([3]) مدارج السالكين (2/250).

([4]) الداء والدواء (1/166).

([5]) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (16832).

([6]) أخرجه البخاري (24)، ومسلم (36).

([7]) أخرجه البخاري (3483).

([8]) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (30372).

([9]) أخرجه الترمذي (2458).

([10]) الداء والدواء (1/108).

([11]) انظر: التبصرة لابن الجوزي (2/255).

([12]) أخرجه البخاري (3404).

([13]) انظر: المؤتلف والمختلف للدارقطني (2/1000).

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

إن مما يعين المؤمن على استبقاء الحياء في قلبه ويزيده عدة أمور، منها:

استحضار نعم الله عليه، فيخاطب نفسه قائلا: كم مرة مرضتَ فشفاك! ونزلت بك نازلة فنجَّاك! وألَمَّ بك الجوع والعطش فأطعمك وسقاك! قصدك بالبلايا ليمحو لك الخطايا! تبارزه بالمعاصي ويعفوَ عنك! تهتك ستره ويوالي ستره عليك! تسيء فيحسن! تُذنب فينعم! تقطعه فيَصل!

وهو القادر أن إذا أسأت بلسانك أن يحرمك نعمة الكلام.

وهو القادر أن إذا نظرت إلى الحرام أن يحرمك نعمةَ الإبصار، لكن أمهلك.

أفلا يستحق منك الحياء!

ثانيا: معاهدة القلب وتجديد الإيمان فيه، فقد قال ﷺ: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم"([1]).

وتجديد الإيمان في القلب يكون بالذكر، بالطاعة، بمجالس العلم، بقراءة القرآن، بزيارة المرضى، بزيارة المقابر، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثالثا: المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها وجماعاتها وخشوعها وخضوعها، ساعتئذ يتحقَّق بإذن الله قول الله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لعنكبوت: 45].  

رابعا: استشعار قرب الله منك، وإحاطته بك، وقدرته عليك، فتخاف منه بقدر قدرته عليك، وتستحيي منه بقدر قربه منك.

قال حاتم الأصم: "تعاهد نفسك في ثلاث مواضع: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلَّمت فاذكر سمع الله منك، وإذا سكتَّ فاذكر علم الله فيك"([2]).

خامسا: مصاحبة ذوي الحياء من الصالحين، فتحيي حياءك بمجالسة من يُستحيا منهم، فشتان بين كلام تسمعه في مجلس علم، وبين كلام تسمعه في مجالس أخرى، وشتان بين ما تسمعه من أهل الحياء وما تسمعه ممن يقول ما يشاء([3]).

 
 

([1]) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (5).

([2]) أخرجه أبو نعيم في ­«حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» (8/75).

([3]) الخطبة للشيخ شريف فوزي سلطان.

عدد الكلمات

3335

الوقت المتوقع

55 د


منبر الحسنى

تاريخ الطباعة/التصدير: 2025-11-14 16:13م