الخطبة الثالثة بعنوان: الروض الندي في فقه اسم الله القوي
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، مرسل النبيين، وناصر المؤمنين، وهازم الكافرين، جابر الضعفاء، وقاصم الجبارين، أنزل الكتب بحكمته، ورفع السماء بقدرته، ودحا الأرض بقوته، عليم بما ظهر وخفى، وبعد ودنى، وولج وعلا، الجميع عنده سواسية، والسر عنده علانية، وأصلِّي وأسلم على طبِّ القلوب ودوائها، وقوت القلوب وغذائها، وحبيب النفوس وكسائها، نبينا محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي، خير البشر قاطبة من عرب ومن عجم، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالوصية المبذولة لي ولكم هي تقوى الله العزيز الغفار، الذي يقبل توبة مسيء الليل والنهار، فما بعد التقوى من وصية، وما أرفعها من هدية، ولكنها لا تنال إلا بالجهاد والنية.
عباد الله: كم تسرب للنفوس من جرعات اليأس والتشاؤم، وهي ترى ضعف المسلمين واستطالة الكافرين، وكم تحطمت قلوب وجزعت نفوس وهي ترى أعداء الإسلام يتطاولون على ثوابت الإسلام ومقدساته، ويستبيحون بلاد الدين وحرماته، فجسد الأمة مثل الأشلاء الممزقة، وبلادها مثل الأراضي المحرّقة، ولقد تجرعت الأرض من دماء المسلمين في كل مكان، وشربت حتى الثمالة من كثرة ما أريق من دمائهم الطاهرة وأرواحهم الزكية.
وهذا الاستضعاف الذي عليه الأمة جعل الهزيمة النفسية تضرب قلوب كثير من المسلمين، وهم يرون أعداء الأمة ظاهرين قاهرين متجبرين على المسلمين، وجعلهم يظنون أن أعداء الأمة قوة باطشة لا تقهر، ظن كثير من المسلمين أن هؤلاء لا يغلبون، وأن قوتهم أكبر من السقوط والانهزام.
وهذا اليأس القاتل والوهم الكاذب إنما تسرب للقلوب وعشش في النفوس بسبب غياب العلم بأسماء الله وصفاته، وضعف الفقه بمقتضيات ودلائل ومعاني أسمائه الحسنى وصفاته العلا، فلو فقه اليائسون والمنهزمون معنى اسم الله القوي ودلالاته ومقتضياته لما ظنوا يوما أن أعداءهم لا يُغلبون، ولو عاش المسلمون في الرحاب الواسعة والآفاق الممتدة لاسم الله القوي لما تطاول عليهم عدو.
ونظرا للحاجة الماسة لفقه اسم الله (القوي) فإننا سندخل هذه الروضة اليانعة الغناء، نفقه معانيه، ونفهم دلالاته، ونعيش في آثاره.
القوي في اللغة: الكَامِل الْقُدْرَةِ على الشَّيْء، تَقول: هُوَ قَادر على حمله، فَإِذا زِدْته وَصفاً قلت: هُوَ قويٌّ على حمله.
أما القوي في حق الله تعالى وكاسم من أسمائه الحسنى فيعني القوة الكاملة المرتبطة بالقدرة الشاملة والمشيئة النافذة.
وَقد وصف الله عز وجل نَفسه بِالْقُوَّةِ، فَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58]، فالقوة لله جميعاً، يقهر من يشاء، ويذل من يشاء، وينصر من يشاء، ويرزق من يشاء، ويعز من يشاء، قال تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 160].
ولا قوة إلا بمعونة الله، كما قال تعالى: ﴿وَلوْلا إِذْ دَخَلتَ جَنَّتَكَ قُلتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ إنا أَقَل مِنْكَ مَالاً وَوَلداً * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً﴾ [الكهف: 39-40]، وقال نبي الله هود -عليه السلام-: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلوْا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 52].
والقوي سبحانه هو الذي كتب الغلبة لنفسه ورسله، قال تعالى: ﴿كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ إنا وَرُسُلِي إِن الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة: 21]، فهو قوي كامل القدرة، لا يستولي عليه العجز في حال من الأحوال، الموصوف بالقوة المطلقة والكمال الدال على قوته وجبروته، فالله تبارك وتعالى القوي الذي لا يغلبه غالب، ولا يرد قضاءه راد، ينفذ أمرُه وقضاؤُه لا يمنعه مانع ولا يدفعه دافع، قهر جميع المخلوقات، ودانت له الخلائق، وخضعت له جميع الكائنات، وامتنع أن يناله أحد من المخلوقات.
وفي القرآن -يا عباد الله- نجد أن المولى جل وعلا قد قرن اسم القوي باسمين مخصوصين تتكامل بهما معاني ودلالات اسم الله القوي، هذا الاسمان هما: العزيز والمتين، فكثيرا ما يقترن اسم الله القوي باسمه العزيز؛ لأن قوته عن عزة وغنى، فالقوة دائما تتبعها مصلحة، وأصحاب القوة في العالم إما يحمون بها أنفسهم، أو يمنحونها لغيرهم طلبا لتبعيتهم أو تهديدا لهم، أما القوي الغني عن العالمين الذي يلطف بالخلق أجمعين فقوته عن عزة وقدرة وحكمة: ﴿اللهُ لطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ [الشورى: 19].
ومن قوته سبحانه أنه يطعِم ولا يطعَم، ويرزُق ولا يرزَق، ويجير ولا يجار عليه، لا ملجأ للخلائق منه إلا إليه، ﴿وَليَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].
والله سبحانه هو القوي المتين، الغني بذاته فلا يحتاج إلى أحد، ولا يبلغ العباد ضره فيضرونه، ولا نفعه فينفعونه، وجميع نواصي المخلوقات بيده، لا يتحرك منها متحرك ولا يتصرف متصرف إلا بحوله وقوته وإذنه، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به.
وقد جاءت أحاديث النبي ﷺ متماشية مع النسق القرآني المتحدث عن أسماء الله وصفاته، مؤكدة على معانيه، وموضحة دلالاته، وكاشفة عن مقتضياته، فعن سَعْدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ t قَال: جَاءَ أعرابي إِلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَال: عَلِّمْنِي كَلاَمًا أَقُولُهُ، قَال: "قُل: لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالحَمْدُ لِلهِ كَثِيرًا، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالمِينَ، لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ"، قَال: فَهَؤُلاَءِ لِرَبِّي، فَمَا لي؟ قَال: "قُل: اللهُمَّ اغْفِرْ لي وارحمني وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي"([1]).
وعن عائشة 1 قالت: كَانَ رَسُولُ الله ﷺ يَقُولُ في سُجُودِ الْقُرْآنِ بِالليْلِ، يَقُولُ في السَّجْدَةِ مِرَارًا: "سَجَدَ وجهي للذي خَلَقَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ"([2]).
وعن عبادة بن الصامت t أن النبي ﷺ قال: "مَنْ تَعَارَّ مِنَ الليْلِ فَقال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الملكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الحَمْدُ للهِ، وَسُبْحَانَ الله، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وَالله أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله، ثُمَّ قال: اللهمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ له، فَإِنْ تَوَضَّأَ قُبِلَتْ صَلاَتُهُ"([3]).
وعنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ أَكَلَ طَعَامًا، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ"، قَالَ: "وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّر"([4]).
وشتان بين قوة الخالق وقوة المخلوقين، فلا وجه بين القوتين، وذلك من أوجه عديدة، منها:
أولا: أن كل قوة في الكون مصدرها الله تعالى، وكلُّ قوة في الملائكة والروح والإنس والجن والحيوان، وكذا كلُّ قوة في السماوات والأرض والنجوم والكواكب والجبال والبحار والحديد والنار، جميع هذه القوى لا تساوي ذرة بالنسبة لقوة الله عز وجل، بل قوة تلك المخلوقات لو اجتمعت لواحد منها فإنها لا تساوي شيئاً بالنسبة لقوة الملك القوي الجبار، ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 74].
ثانيا: قوة الله تعالى قوة أبدية لا تحول ولا تزول، ومهما رأيت من أقوياء فإنهم بعد حين يردون إلى ضعف وعجز، قوة الشباب وقوة المال وقوة السلطان كلها تزول، ولا تدوم إلا قوة الحي القيوم، ألم ير الخلق أنهم كانوا من قبل ضعفاء، وأنهم بعد حين سيعودون إلى ضعفهم؟ قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: 54].
كم من أناس بين عشية وضحاها أصبحوا لا وزن لهم ولا قيمة، ولا خبر ولا أثر، فهذا قارون لما اختال بماله ومكانته، ونَصَحَهُ قومه ووعظوه ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78]، فكانت النتيجة: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ [القصص: 81]، وهكذا كم ظالم عتا وبغى واهتزت الأرض تحت قدميه، ثم هو اليوم صريع المرض والضعف والعجز، قال تعالى: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: 165].
وبالنظر في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وتدبر سير الأمم السابقة وحركة التاريخ من لدن آدم -عليه السلام- تتبين لنا وبجلاء معاني ودلالاتُ قوة القوي العزيز ذي القوة المتين، ومن هذه الدلائل:
أولا: قوة المشيئة النافذة في بطشه، فإنه القادر على إتمام فعله، له مطلق المشيئة والأمر في مملكته، قوي في ذاته غيُر عاجز، لا يعتريه ضعف أو قصور، قيّوم لا يتأثر بوهن أو فتور، ينصر من نصره، ويخذل من خذله، قال عز وجل: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ الله مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].
ولما كتب الله لنبيه موسى الأَلواح أمره أن يأخذها بقوة: ﴿فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الأعراف: 145]، أَي خذها بقُوَّة في دينك وحُجَّتك، وقال ليحيى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ [مريم: 12]، أَي بِجِدّ وعَوْن من الله تعالى.
ثانيا: قوة إبداع الخلق فذلك من قوته واقتداره، فأحيا وأمات، وخلق السماوات والأرض، وخلق العرش والكرسي، وخلق الملائكة العِظام، وخلق الجبال الراسيات، والنجوم الزاهرات، والكواكب النيرات، والحيوان والنبات، والإنس والجان، والقوي سبحانه كما خلق الخلق فهو الذي يميتهم ثم يحييهم ثم إليه يرجعون: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه﴾ [الروم: 27]، ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان: 28]، وعزة القهر والغلبة لكل الكائنات هي لله وحده، فالمخلوقات كلها خاضعة لعظمته، منقادة لإرادته.
عباد الله: أليس في رفع السماء بلا عمد مع ما تحمل من المخلوقات فوقها أكبرُ آية وأعظم دليل على قوة الله البالغة؟ ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ [الرعد: 2]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر: 41]، أيُّ قوي يستطيع أن يحرك الأرض حول نفسها بسرعة خمسة وستين وأربعمائة متر في الثانية! أي: ما يعادل ألفاً وستمائة وأربعة وسبعين كيلو متراً في الساعة!
حقا ما أعظم قوة الله، عن عبدالله بن عمر 5 قال: قَرَأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: ﴿وَالسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67]، قَالَ: "يَقُولُ اللهُ عز وجل: أنا الْجَبَّارُ، أنا الْمُتَكَبِّرُ، أنا الْمَلِكُ، أنا الْمُتَعَالِي، يُمَجِّدُ نَفْسَهُ"، قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُرَدِّدُهَا حَتَّى رَجَفَ بِهِ الْمِنْبَرُ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيَخِرُّ بِهِ([5]).
ثالثا: قوة إهلاك الكافرين والمجرمين، ونصر رسله وعباده المؤمنين، والحياة مليئة بشواهد ذلك، وقصص الأنبياء خير شاهد، قال الله تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ إنا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة: 21].
فالله القوي يهلك الظالمين وينتقم من المجرمين بأنواع من العقوبات، فلا يغني عنهم حينئذ كيدُهم، ولا مكرُهم، ولا أموالهُم، ولا جنودُهم، ولا حصونُهم من عذاب الله شيئا، وما زادوهم غير تتبيب.
قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى﴾ [النجم: 50-55]، فأهلك القوي قوم عاد الجبابرة حين كذبوا الرسل، وعتوا واستكبروا في الأرض، واغتروا بقوة أبدانهم، وضخامة أجسادهم، وعظيم بطشهم في البلاد والعباد، قال سبحانه: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [فصلت: 15]، فأرسل الله عليهم الهواء الذي يألفونه، ولا يستغنون عنه لحظة، ريح فيها عذاب أليم، ما تذر شيئاً أتت عليه إلا جعلته كالرميم، ودمرهم ذو القوة والجبروت، ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأحقاف: 25].
وهو سبحانه القوي العزيز الذي أهلك ثمود لما كذبوا صالحاً، وكفروا بالله، فأهلكهم بصعقة واحدة، كما قال سبحانه: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [فصلت: 17-18].
وهو سبحانه القوي الذي أغرق قوم نوح لما كذبوا نوحاً، وكفروا بالله، كما قال سبحانه: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ [الفرقان: 37-38].
وقد أهلك الله القوي الجبار الأمم التي كفرت بالله، وكذبت الرسل، وأفسدوا في الأرض، واستكبروا فيها، وجحدوا نعم الله عليهم من الملك والجاه، والمال والولد، والصحة والأمن، واستعملوا تلك النعم في معصية الله، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [غافر: 22]، فأنزل عليهم من عقابه ما أظهر به قدرته وقوته وبطشه.
وكانت تلك العقوبات متفاوتة، فتارة بالماء، وتارة بالريح، وتارة بالصيحة، وتارة بالخسف، وتارة بالنار، وتارة بالحصب بالحجارة كما حصل لقوم لوط، قال تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ [العنكبوت: 40].
اللهم إنا نسألك باسمك القوي المتين أن تقوي أمرنا، وتشد ظهرنا، وتكبت عدونا، وتنصر جندنا، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
([1]) أخرجه مسلم (2696).
([2]) أخرجه أبو داود (1414)، والترمذي (580)، والنسائي (1129).
([3]) أخرجه البخاري (1154).
([4]) أخرجه أبو داود (4023).
([5]) أخرجه أحمد في «المسند» (5608).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، نبينا محمد صلوات ربي وتسليماته عليه وعلى آله وصحبه وأحبابه وأتباعه إلى يوم الدين.
عباد الله: إن البشرية اليوم في أمس الحاجة لفقه أسماء الله وصفاته عامة، واسم القوي خاصة، ففقه هذا الاسم تحديدا يعيد للبشرية سلامها وأمنها ويضبط توازنها، وتستعيد البشرية به مرة أخرى إنسانيتها المفقودة بسبب الاغترار بالقوة والجبروت، فإن الغرور بالقوة والتقدم العلمي والصناعي والعسكري أصاب كثيراً من الدول، فتسلطوا على خلق الله شرقا وغربا، وحالهم: من أشد منا قوة؟
وهذا نذير هلاك، فلو فقهوا معنى القوة الحقيقية، ومَن المتصف بها على الحقيقة لتواضعوا لله عز وجل، وكفوا عن العدوان على الناس، ولارتدعوا عن غيهم واستطالتهم على خلق الله.
لذلك فإن الآثار الإيمانية لاسم الله القوي آثار تحتاج البشرية جمعاء لمعرفتها، ومن أهم تلك الآثار ما يلي:
أولا: الاعتزاز بقوة الله عز وجل، وذلك بأن ينعكس هذا الاعتزاز على حياة المؤمن وسلوكه وأفعاله، فيصدع بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم، وإن همّ بالظلم تذكّر قوة الله، قال تعالى: ﴿أَوَلمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً﴾ [فاطر: 44].
وعن جابر بن عبدالله 1 قال: غزونا مع رسول الله ﷺ غزوة قبل نجد، فأدركَنَا رسولُ الله ﷺ في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله ﷺ تحت شجرة، فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله ﷺ: "إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، قال: فشام السيف، فها هو ذا جالس"، ثم لم يعرض له رسول الله ﷺ([1]).
فمع هذا الموقف الصعب يصمد القائد كالجبل الأشم ثابتاً لا يتزحزح، لم تهزه حماقة ذلك الأعرابي ولا أرعبه سيفه المسلول؛ لأنه يعلم أن قوة القوي مهيمنة ونافذة.
وعَنْ مُعَاوِيَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "لَا تُقَدَّسُ أُمَّةٌ لَا يُقْضَى فِيهَا بِالْحَقِّ، وَيَأْخُذُ الضَّعِيفُ حَقَّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ"([2]).
ثانيا: حسن التوكل على القوي، والاستسلام لعظمته، والتبرؤ من الحول والقوة إلا به، ولهذا كانت كلمة "لا حول ولا قوة إلا بالله" جليلة الشأن، كبيرة القدر، عظيمة الأثر، عن أبي موسى الأشعري t قال: قال لي رسول الله ﷺ: "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟"، فقلت: بلى، قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله"([3]).
فهي كلمة استسلام وتفويض والتجاء وتبرؤ من الحول والقوة إلا بالله، وأن العبد لا يملك شيئا من أمره، ومن قالها محققا ما دلت عليه من التوكل والتفويض كان أقوى الناس قلبا، وأحسنهم حالا ومآلا.
ثالثا: التواضع وترك الغرور، فمن خدعته قوته واغتر بنفسه أو جاهه أو سلطانه فليتذكر قوة القوي الجبار.
عن أَبُي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيّ t قال: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ"، فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ، قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ"، قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ"، قَالَ: فَقُلْت: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا"([4]).
أخي الكريم: إذا دعتك قوتك إلى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك، قال عبدالله بن مسلم بن محارب لهارون الرشيد: أسألك بالذي أنت بين يديه أذلُّ مني بين يديك، وبالذي هو أقدر على عقابك منك على عقابي لما عفوتَ عني، فعفا عنه لما ذكره قدرة الله تعالى([5]).
فلا يغترن عبد بما أمده الله من قوة، وإياك أن تعتد بقوتك المادية أو قوة سلطانك وجاهك، فهذا الحال هو ما مقته سبحانه على قوم عاد، فحاق بهم سوء العذاب، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [فصلت: 15].
وعليك كلما رأيت في نفسك عظمةً ومكانةً وعلماً وتميزاً أن تقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [الكهف: 39].
رابعا: الاستخدام النافع للقوة الموهوبة من الله سبحانه، فعليك يا عبدالله يا من بسط الله تعالى عليك في قوتك في أي نوع منها أن تستغل هذه القوة في الحق، وأن تستعمل هذه القوة في الدعوة إلى القوي سبحانه، ولك في السابقين قدوة وفي سلفك أسوة، فعن أبي عقرب t قال: سألت رسول الله t عن الصوم، فقال: "صم يوما من الشهر"، قلت: يا رسول الله، زدني زدني، قال: "تقول: يا رسول الله، زدني زدني، يومين من كل شهر"، قلت: يا رسول الله، زدني زدني، إني أجدني قويا، فقال: "زدني زدني، أجدني قويا"، فسكت رسول الله ﷺ حتى ظننتُ أنه ليردُّني، قال: "صم ثلاثة أيام من كل شهر"([6]).
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو 5 قَال: قال لي رسول الله ﷺ: "اقرأ القرآن في كل شهر"، قال: قلت: إني أجد قوة، قال: "فاقرأه في عشرين ليلة"، قال: قلت: إني أجد قوة، قال: "فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك"([7]).
إن طاعة المولى سبحانه وتعالى بحاجة إلى قوَّةٍ تدفع الإنسان إلى فعل الخيرات والمنافسة عليها؛ رغبة في رضا الله، وطمعا في حبه وجنته، والمؤمن القويُّ محبوبٌ عند الله، قال رسول الله ﷺ: "المؤمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلى اللهِ مِنَ الْمُؤمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيرٌ"([8]).
فسخر قوتك ونشاطك في طاعة الله سبحانه، وفي عمارة الأرض بالخير والعمل الصًّالح، ولا تبخل بها في دعم مسيرة الدعوة إلى الله عز وجل.
اللهم إنا نعوذ بك من الفسوق والشقاق والنفاق والسمعة والرياء، ونعوذ بك من الصمم والبكم والجنون وسيء الأسقام.
اللهم إنا نعوذ بك من الهَم والحَزَن، ونعوذ بك من العجز والكسل، ونعوذ بك من الجبن والبخل، ونعوذ بك من غلَبة الدَّين وقهر الرجال([9]).
([1]) أخرجه البخاري (2910)، ومسلم (843).
([2]) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (19/385/903).
([3]) أخرجه البخاري (4205)، ومسلم (2704).
([4]) أخرجه مسلم (1659).
([5]) انظر: أدب الدين والدنيا للماوردي (ص259).
([6]) أخرجه النسائي (2433).
([7]) أخرجه البخاري (5054)، ومسلم (1159).
([8]) أخرجه مسلم (2664).
([9]) الخطبة من ملتقى الخطباء، الفريق العلمي.