الخطبة الثانية بعنوان: ولله الأسماء الحسنى

اسم كاتب الخطبة: الخطبة من إدارة الأوقاف السنية بدولة البحرين

الخطبة الثانية بعنوان: ولله الأسماء الحسنى

الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الملكِ الحقِّ المبينِ، خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَشَرَعَ فَأَحْكَم، لهُ الأسماءُ الحُسْنى والصِّفاتُ العُلَى، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ [الشورى: 11]، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ إلى العالَمينَ، رحمةً من اللهِ وحكمةً، وهوَ سبحانَهُ أحكمُ الحاكمينَ، أمَّا بعدُ:

 فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، فإنَّ مَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاه، وأرشدَهُ إلى خيرِ دينِهِ ودنياه، قالَ سبحانَهُ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ[الطلاق: 2-3].

معاشرَ المسلمينَ: إنَّ أشرفَ الفقهِ، وأعظمَ المعارِفِ معرفةُ الرَّبِّ العظيمِ بأسمائِهِ الحُسنى وصفاتِهِ العُلا؛ لأنَّ منْ أعظمِ أسبابِ تحقيقِ التَّقوى معرفةَ العبدِ ربَّه، فإنَّ مَنْ عرفَ اللهَ تعالى بأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ وكمالِهِ وجلالِهِ اتَّقاه، وأحبَّه، ورجاهُ، وتوكَّلَ عليهِ، وأنابَ إليهِ، ولمْ يَرْجُ غيرَهُ، ولا تعلَّقَ قلبُهُ بسواهُ.

ومعرِفةُ اللهِ تعالى منها تتفجَّرُ ينابيعُ الخيراتِ، وعنها تَصْدُرُ أحسنُ العباداتِ وأكملُ المقَامات.

ولما كانَ نبيُّنا ﷺ أكملَ الأمَّةِ معرفةً باللهِ تعالى كانَ أتقاهُم لَهُ، وأشدَّهم لهُ خشيةً، يقولُ ﷺ: "أَمَا واللهِ إنِّي لأتقاكُم للهِ، وأخشاكُمْ لَهُ"([1])، وكانَ ﷺ أعرفَ النَّاسَ بحقِّ ربِّهِ، فكانَ يقومُ من الليلِ حتَّى تتفطَّرَ قدماهُ، فقيلَ له: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فقَالَ: "أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا"([2]).

ولما كانتْ معرفةُ اللهِ بهذهِ المكانةِ العَلِيَّةِ والمنزلةِ الرَّفيعةِ كانتِ الآياتُ والسُّورُ المشتملةُ على بيانِ أسماءِ الرَّبِّ وصفاتِهِ أعظمَ السُّورِ شأنًا وأجلَّ الآياتِ مكانةً:

فأعظمُ آيةٍ في القرآنِ آيةُ الكرسيِّ؛ لما اشتملتْ عليهِ من تمجيدِ اللهِ وتعظيمِهِ.

وأعظمُ سورةٍ في القرآنِ سورةُ الفاتحةِ؛ لما تضمنتهُ من حمدِ اللهِ والثَّناءِ عليهِ تباركَ وتعالى.

وسورةُ الإخلاصِ تعدلُ ثلثَ القرآنِ؛ لأنَّها أُخلصتْ في بيانِ صفةِ الرَّبِّ تباركَ وتعالى، فعَنْ عَائِشَةَ 1 أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَيَخْتِمُ بِــ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[الإخلاص: 1]، فَلَمَّا رَجَعُوا ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: "سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟"، فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ"([3]).

ولا تكادُ تخلو آيةٌ من آياتِ القرآنِ من ذكرِ بعضِ أسماءِ الرَّبِّ جلَّ وعلا وصفاتِه، بل هناك آياتٌ في القرآنِ أُخلصت لبيانِ ذلكَ، قالَ تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 22-24].

معاشرَ المسلمينَ: كلَّما عظُمتْ عنايةُ العبدِ بهذا البابِ تعلُّمًا لأسماءِ اللهِ وصفاتِهِ، وتفقُّهًا في معانيها، وتعبُّدًا بمقتضاها كلَّما زادَ إقبالًا على اللهِ، ومحبَّةً لهُ، وإقبالًا على طاعتِهِ، وتعظيمًا لَهُ، وبُعدًا عمَّا يُسْخِطُهُ.

وكلما كانَ العبدُ باللهِ أعرفَ كانَ لعبادتِهِ أطلبَ، وعن معصيتِهِ أبعدَ، وكانَ اللهُ أحبَّ إليهِ من كلِّ شيءٍ، وامتلأَ قلبُهُ شوقًا للقاءِ اللهِ ورؤيتِهِ، وَمَنْ أحبَّ لقاءَ اللهِ أحبَّ اللهُ لقاءَهُ .

وقدْ أمرَ اللهُ سبحانَهُ عبادَهُ أنْ يَتَعرَّفوا عليهِ، فقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[الأعراف: 180]، وقال سبحانه: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرحمن أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110]، ورتَّب على معرفةِ أسمائِه وإحصائِها الأجرَ العظيمَ والثَّوابَ الجزيلَ، ففي الصحيحينِ عن أبي هريرةَ t قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً، مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ"([4])، وإحصاؤُها يتحقَّقُ بحفظِ ألفاظِها، وفهمِ معانِيهَا، والتعبُّدِ للهِ بها، ولكلِّ اسمٍ من أسماءِ اللهِ تعالى عبوديَّةٌ تليقُ بِهِ.

عبادَ اللهِ: معرفةُ اللهِ قاعدةُ الإيمانِ، وأصلُ شجرةِ الإحسان، ولا تستقيمُ للعبدِ محبَّةُ اللهِ سبحانَهُ إلا بهذِهِ المعرفةِ، وإنما تفاوتَتْ منازلُ الناسِ في العبادةِ والمحبَّةِ بسببِ تفاوُتِ منازلِهم ومراتبِهم في معرفةِ الله تعالى وأسمائِه وصفاتِه.

فإذا عرف العبدُ أنَّ ربَّهُ سبحانَهُ بيدِهِ الأمرُ، وبيدِهِ الخَفْضُ والرَّفْعُ، والْقَبْضُ والبَسْطُ، والعِزُّ والذُّلُّ، والحياةُ والموتُ، وتدبيرُ الأمرِ، إِذَا عَرَفَ ذَلِكَ أَوْجَبَتْ لَهُ هذِهِ المعرفةُ حسنَ التوكِّل عليهِ، وكمالَ الالتجاءٍ إليهِ، وتفويضَ الأمورِ كلِّها إليهِ.

وإذا عرف العبدُ أنَّ ربَّهُ سبحانَهُ البَرُّ الرَّحيمُ، الجوادُ الكريمُ، المحسنُ المتفضِّلُ، أوجبَتْ لَهُ هذه المعرفةُ افتقارًا إلى اللهِ، وحسنَ التجاءٍ إليهِ في طلبِ الرِّزقِ وتحقيقِ جميعِ المصالحِ الدينيَّةِ والدنيويَّةِ.

وإذا عرف العبدُ أنَّ ربَّهُ سبحانَهُ توابٌ غفورٌ، يقبلُ توبةَ التَّائبينَ، وإنابةَ المنيبينَ، واستغفارَ المستغفرين، لا يتعاظمُهُ ذنبٌ أن يغفرَهُ، كما قالَ تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]، إذا عرف العبد ذلك أوجبَ له إنابةً إلى الله، وتوبةً إليه، وملازمةً للاستغفارِ والدُّعاء.

رزقني اللهُ وإيَّاكم محبَّتَهُ وطاعتَهُ، وجنَّبنا مساخطَهُ وعقوبَته.

والحمد لله رب العالمين.

 

([1]) أخرجه مسلم (1108).

([2]) الحديث أخرجه البخاري (4837)، ومسلم (2820).

([3]) أخرجه البخاري (7375)، ومسلم (813).

([4]) أخرجه البخاري (2736)، ومسلم (2677).

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ حمدَ الشَّاكرينَ، ونُثني عليهِ ثناءَ الذَّاكرينَ، لا نحصي ثناءً عليهِ، هو كما أثنى على نفسِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ وسلَّم عليهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، أمَّا بعدُ:

فاتَّقوا اللهَ -عبادَ اللهِ- حقَّ التَّقوى، وراقبوهُ في السِّرِّ والنَّجوى.

معاشرَ المسلمينَ: لما غفلَ كثيرٌ من النَّاسِ، وذُهِلوا عن هذا البابِ العظيمِ من أبوابِ معرفةِ اللهِ الجليلِ حُجِبَ أكثرُ الخلقِ عن تحقيقِ الإيمان باللهِ تعالى، وضُربوا بحجابِ البُعدِ عن اللهِ، وتخلَّفوا عن معرفتِهِ حق معرفته، وَقَعَدُوا مع القاعدِين، يسمعون أسماءَ اللهِ وصفاتِه فلا يؤثرُ ذلك في قلوبِهم، ولا يزيدُ في عبادتِهم، ولا يُصلِحُ أقوالهَم ولا أعمالَهم ولا أحوالَهم، فقد ضرب بينهم وبين اللهِ ومعرفتِه حجابٌ من الشُّبهاتِ والشَّهواتِ والجهلِ والغفلةِ عياذا بالله.

لذا علينا أن نُعيدَ النَّظرَ في هذا الأصلِ مع أنفسِنا أولًا، ومع أَهلينا وأولادِنا وطلَّابنا، وأنَّ نجعلَ للتفقُّهِ في أسماءِ اللهِ الحسنى حظًّا كبيرًا من أوقاتِنا ودراستِنا، حفظًا وفهمًا وعملًا؛ لكي نجد أثرَها في إصلاحِ قلوبِنا وسلوكنا، ولننالَ الفضلَ الواردَ عن رسولِ اللهِ ﷺ بدخولِ جنَّة النعيم، جعلني الله وإيَّاكم من أهلها.

ألا وصلُّوا -عباد الله- على رسولِ الهُدى، فقد أمرَكم الله بذلك في كتابِه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ على محمدٍ وأزواجِه وذريَّــته، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارِك على محمدٍ وأزواجِه وذريَّته، كما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، واجعَل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا، وسائرَ بلادِ المسلمين.

اللهم فرِّج همَّ المهمُومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكرُوبين، واقضِ الدَّينَ عن المدِينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المسلمين، برحمتِك يا أرحم الراحمين  .

اللهم وفِّق وليَّ أمرِنا وولي عهده لما تُحبُّ وترضَى، اللهم وفِّقهما لهُداك، واجعَل عملَهما في رِضاك، يا أرحم الراحمين.

وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، فاستغفرُوهُ إنَّهُ هوَ الغفورُ الرَّحيم([1]).

 

 

 

 

 
 

([1]) الخطبة من إدارة الأوقاف السنية بدولة البحرين.

عدد الكلمات

1949

الوقت المتوقع

32 د


منبر الحسنى

تاريخ الطباعة/التصدير: 2025-04-26 01:29م