الخطبة الثالثة بعنوان: تأملات في اسمي الملك والمهيمن
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
من أسماء الله تعالى الملك ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ [المؤمنون: 116]، ومن أسمائه المالك ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4]، ومن أسمائه المليك ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 55]، فهو سبحانه المالك لجميع الأشياء، والمتصرفُ فيها بلا ممانعة ولا مدافعة.
يغفر ذنباً، ويفرج هماً، ويكشف غماً، وينصر مظلوماً، ويأخذ ظالماً، ويفك عانياً، ويغني فقيراً، ويجبر كسيراً، ويشفي مريضاً، ويقيل عثرة، ويستر عورة، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويعطي سائلاً، يذهبُ بدولة، ويأتي بأخرى، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين، ويداول الأيام بين الناس، لا ينازعه في ملكه منازع، ولا يعارضه فيه معارض، هو المالك لخزائن السماوات والأرض، وهو المالك للموت والحياة والنشور، وهو سبحانه المالك لجميع الممالك: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29].
فإذا علمت بأن الله هو الملك المتصرفُ في الأمور بلا ممانعة ولا مدافعة فاعلم أن كل من مَلَكَ شيئاً فهو بتمليك الله له، قال ﷺ: "لا مالك إلا الله"([1])، فإذا ملكت شيئا من أمور الدنيا فاعلم أنك مستخلف فيه فقط، وإياك ثم إياك أن تطغى، ففرعون لما طغى وتكبر، وقال: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي﴾ [الزخرف: 51] كانت النتيجة: ﴿انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾ [الزخرف: 55-56].
وإذا علمت بأن الله سبحانه هو الملك والمالك والمليك فإياك ثم إياك أن تتوجه بالعبادة إلى غيره، فكل المخلوقات ضعيفة لا تملك شيئاً لنفسها ولا لغيرها، والله جل وعلا أنكر على المشركين الذين عبدوا هذه المخلوقات التي هي مثلهم في الضعف: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ [النحل: 73]، ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [المائدة: 76].
وإذا علمت بأن الملك المطلق لله وحده لا شريك له فاعلم أن الطاعة المطلقة لله وحده لا شريك له؛ لأن من سواه من ملوك الأرض إنما هم عبيد له، وتحت إمرته سبحانه، فلابد من تقديم طاعة الملك الحق على طاعة من سواه، وتقديم حكمه على حكم غيره.
وإذا علمت بأن من أسماء الله الملك فإن ملك الله تعالى لا ينقص أبداً، أما ملوك الدنيا فإِن تصدقوا بشيء انتقص مالهم وملكهم، وقلَّت خزائنهم، أما الله سبحانه فملكه لا ينقص بالعطاء والإحسان، قال ﷺ: "يمين الله ملأى، لا يغيضها شيء، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه"([2])، وفي الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: "يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر"([3]).
وإذا علمت بأن الله جل وعلا هو الملك فاعلم أن الدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تسوى عنده سبحانه جناح بعوضة لما سقى فيها كافراً شربة ماء.
وإذا علمت بأن الله سبحانه هو الملك فاعلم أن الله سبحانه هو مالك يوم الدين، فالناس في الدنيا منهم من يملك بلدة، ومنهم من يملك قبيلة، ثم يزول ملكه أو يموت عنه، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فالناس كلهم سواسية، لا ملك فيها لأحدٍ على أحد، كلهم ملك لله سبحانه، ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16]، ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ﴾ [الأنعام: 73]، ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4]، فالله جل وعلا هو مالك يوم الدين، قال بعض العلماء: وأضاف الملك ليوم الدين، وهو يوم القيامة، يوم يدان الناس بأعمالهم خيرها وشرها؛ لأن في ذلك اليوم يظهر للخلق تمام الظهور كمال ملكه وعدله وحكمته، وانقطاع أملاك الخلائق حتى إنه في ذلك اليوم يستوي الملوك والرعايا والعبيد والأحرار، كلهم مذعنون لعظمته، خاضعون لعزته، منتظرون لمجازاته، راجون ثوابه، خائفون من عقابه.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
([1]) أخرجه مسلم (2143).
([2]) أخرجه البخاري (4684)، ومسلم (993).
([3]) أخرجه مسلم (2577).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
من أسماء الله جل وعلا المهيمن، بمعنى أنه شاهدٌ على خلقه بما يصدر منهم من قول أو فعل، لا يغيب عنه من أعمالهم الباطنة والظاهرة شيء.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: "المهيمن المطلع على خفايا الأمور، وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علما"([1]).
فإذا علمت بأن من أسماء الله المهيمن الذي لا يغيب عنه شيء من أعمال العباد الظاهرة والباطنة فإنك حينئذ تراقبُ الله في السر والعلانية، وتبتعد عن كل ما يسخط الله، وتخاف منه سبحانه، فما أعظم ملك الله سبحانه، وما أعظم قدرته، وما أعظم جبروته سبحانه([2]).
([1]) تفسير السعدي (ص947).
([2]) الخطبة للشيخ فهد بن سعد أبا حسين.