- المقدم والمؤخر
وفي هذين الاسمين خطبة واحدة بعنوان: اسم الله المقدم والمؤخر
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أدخرها إلى يوم المصير، ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم﴾ [الشعراء: 88-89]، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
عباد الله: ليس في هذا الكون من شيئين متساويين تساويا مطلقا أبدا، بل دائما ما تجد أحدهما مفضل على الآخر، فالذكر مفضل على الأنثى، والعالم مفضل على الجاهل، والتقي الصالح مفضل على الفاجر الطالح، وليس هذا في أمور الآخرة فحسب، بل حتى في أمور الدنيا، فالإنسان مكرم ومقدم على جميع الكائنات، وعلى جميع الأحياء والجمادات.
أيها المسلمون: إن من أسماء الله الحسنى المقدم والمؤخر، ومعناهما أن الله هو المعطي لعوالي الرتب، وهو الدافع عن عوالي الرتب، وهو المنزل للأشياء منازلها، يقدم ما شاء منها ويؤخر ما شاء، رفع الخلق بعضهم فوق بعض درجات، لا مقدم لما أخر، ولا مؤخر لما قدم.
وهو المقدم والمؤخر ذانك الـ *** صفتان للأفعـال تابعتان
وهما صفات الذات أيضا إذ هما *** بالذات لا بالغير قائمتان
عباد الله: لم يرد اسم الله المقدم في القرآن، وإنما ورد في السنة النبوية:
فعن ابن عباس 5 قال: كان النبي ﷺ إذا قام من الليل يتهجد قال: "أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت"([1]).
وعن علي بن أبي طالب t أن رسول الله ﷺ كان من آخر ما يقول رسول بين التشهد والتسليم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت([2]).
وأما اسم الله المؤخر فلم يرد كذلك في القرآن صريحا، وإنما جاء كوصف فعل لله تعالى، وذلك في قوله: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ [المنافقون: 10].
معاشر المسلمين: إن من ثمرات الإيمان بهذين الاسمين الارتقاءَ إلى مراتب عالية عند الله بالحرص والمسابقة إلى الخيرات والأعمال الصالحات.
قال الله: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 148]، وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 60-61]، وقال عليه الصلاة والسلام: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا"([3]).
فلا تضيع يا عبدَ الله فرصة في طاعة، فإن لكل متحرك سكونا، ولكل إقبال إدبارا، ورحم الله أبا بكر t يوم يقول ﷺ: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضا؟"، قال أبو بكر: أنا، فقال ﷺ:"ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة"([4]).
ومن ثمرات الإيمان بهذين الاسمين: تقديم ما قدمه الله من الطاعات والأعمال الصالحات، ومنها التقدم إلى المساجد والصفوف الأولى.
قال عليه الصلاة والسلام: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا"([5])، وقال عليه الصلاة والسلام: "أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل"([6])، وعن معاذ بن جبل t قال: سألت رسول الله ﷺ: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: "أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله"([7]).
ومن ثمرات الإيمان بهذين الاسمين: التعلق بالله وحده، والتوكل عليه سبحانه، فمهما حاول البشر من تقديم شيء لم يرد الله تقديمه، أو تأخير أمر لم يرد الله تأخيره فلن يستطيعوا.
إن من الإيمان بالله تفويضَ الأمر له، والاعتمادَ عليه في شؤون الحياة، واستمدادَ العون منه في الشدة والرخاء، والاعتقادَ بأنه الإله المدبر للملك الفعال لما يريد، بيده وحده العطاء والمنة، والهزيمة والنصر، والتقديم والتأخير، لا إله إلا هو، ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 51].
ومن ثمرات الإيمان بهذين الاسمين: الإيمان بحكمته سبحانه في تقديم ما قدم، وتأخير ما أخر، فما من حدث يحدث، ولا مصيبة تحصل في أرض الله، ولا في عباد الله إلا بقدر الله، ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: 22].
فكم من مغبوط بنعمة هي داؤه، ومحروٍم من دواء حرمانه هو شفاؤه، كم من خير منشور، وشر مستور، ورُبَّ محبوب في مكروه، ومكروه في محبوب، ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216]، والخيرة فيما اختاره الله له.
ومن ثمرات الإيمان بهذين الاسمين: أن ميزان التقديم والتأخير، والحب والبغض، والولاء والبراء هو ميزان الله لا ميزان البشر، ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: 21].
يأتي سهيل بن عمرو وأبو سفيان إلى باب عمر t، فيأذن أولا لأهل بدر، لصهيب وبلال 5 وأهل بدر، وكان يحبهم، وكان قد أوصى بهم، فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط، يؤذن لهذه العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل -وكان لبيبا عاقلا-: إني والله لقد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، دعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، والله إن ما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتا من بابكم هذا الذي تنافسونهم عليه، قال الحسن: "صدق والله، لا يجعل الله عبدا أسرع إليه كعبد أبطأ عنه"([8]).
وصدق ربنا حين قال: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبآي الذكر الحكيم، أقول هذا القول مستغفرا الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه كان غفارا.
([1]) أخرجه البخاري (1120)، ومسلم (769).
([2]) أخرج مسلم (771).
([3]) أخرج مسلم (118).
([4]) أخرج مسلم (1028).
([5]) أخرج البخاري (615)، ومسلم (437).
([6]) أخرج البخاري (5861)، ومسلم (782).
([7]) أخرج ابن حبان في «صحيحه» (818).
([8]) انظر القصة في «الجهاد» لابن المبارك (100).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا دائما متصلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق العباد ليبلوهم أيهم أحسن عملا، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، هدانا سبل الهدى والخيرَ ذللا، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله: إن من ثمرات الإيمان بهذين الاسمين أن يعلم المؤمن أن الذنوبَ توبق العبد وتؤخره، وصفحَ الله عن عبده وغفرانهَ له يقدمه ويرفعه، والأمر كله لله وبيده، يخفض ويرفع، ويعز ويذل، ويعطي ويمنع.
وفي الحديث الصحيح: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء"([1]).
وقد فتح سبحانه أبوابه للراغبين السائلين، وهو سبحانه لا يرد من دعاه، ولا يخيب من ناداه، هو القائل في الحديث القدسي: "يا عبادي: كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي: كلكم جائع إلا من أطعمتُه فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي: كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم"([2]).
ومن ثمرات الإيمان بهذين الاسمين: أن من كان سباقا إلى الخيرات في الدنيا كان من السابقين لدخول الجنات في الأخرى، ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ [الواقعة: 10]، ﴿سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد: 21].
وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة t أن النبي ﷺ قال: "سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك، ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك، وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر، قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾ [ص: 177]"([3]).
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم كن لنا ولا تكن علينا، واختم بالصالحات أعمالنا.
اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا.
ربنا إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا أخرتنا التي إليها معادنا، وارزقنا من كل خير، واكتب لنا السلامة من كل شر، برحمتك يا أرحم الراحمين([4]).
([1]) أخرجه مسلم (2654).
([2]) أخرجه مسلم (2577).
([3]) أخرجه مسلم (189).
([4]) الخطبة للشيخ سليمان بن صالح القوبع.