اسم الودود

اسم كاتب الخطبة: ملتقى الخطباء، الفريق العلمي

الودود

وفي هذا الاسم خطبة واحدة بعنوان: اسم الله الودود

الخطبة الأولى

إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ومَنْ يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.

اللهم صلِّ على نبينا محمد النبي، وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وذرِّيته وأهل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70-71]، أما بعدُ:

فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد ﷺ، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

يا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظموه حق تعظيمه وأحبوه؛ لما يغذوكم به من نعمه، ولما أسبغ عليكم من ستره ولطفه وكرمه، واعلموا أن ودّ الله سبحانه عمَّ عباده كلهم، فقد وصلهم ببره، ومدّهم بإحسانه، ووسعهم بعدله وغفرانه، ولطف بهم، وغفر لهم مساوئ أعمالهم، فهو اللطيف الودود الغفور، يتحبب إلى العاصين برحمته ومغفرته، ويتحبب إلى الخلق كلهم بالعطاء والرفق.

وإذا كان الإنسان قد يغفر لمن أساء إليه مع أنه لا يحبه، كما أنه قد يرحم من لا يُحب، فإن الرب سبحانه يغفر لعبده إذا تاب إليه، ويرحمه، ويحبه، فالودود يحب التوابين من عباده، ويفرح بهم أشد الفرح، ويرضى عنهم، ويقبل صالح أعمالهم، ويحسن إليهم لأجلها، ويثيبهم عليها.

والودود سبحانه يحب لعباده أن يسعدوا في دنياهم، ويغنموا في أخراهم؛ لأنه الرحيم الودود الرؤوف بالعباد.

أيها المؤمنون: كل إنسان في هذه الحياة يحب أن يكون محبوبًا عند من حوله، مقبولاً في مجتمعه، يُحِب ويُحَب، ويُعرَف ويُشكر، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يحبه الودود سبحانه، فيُحبَّبَه إلى خلقه، ويرفعَ له ذكره، وينشرَ له الثناء الحسن بين خلقه، سواء في حياته أو بعد مماته، فلا شك أن الوُد والمحبة كلها من الله سبحانه.

والله عز وجل هو الودود الذي يؤيد رسله وعباده الصالحين بمعيته الخاصة، فلا يخيّب رجاءهم، ولا يرد دعاءهم، وهو عند حُسْن ظنهم به.

وهو الودود لعامة خلقه بواسع كرمه وسابغ نعمه، يرزقهم، ويؤخر العقاب عنهم؛ لعلهم يرجعون إليه سبحانه وتعالى.

وتيقنوا -عباد الله- أن الله تعالى هو الودود المحب لأنبيائه وملائكته وعباده الصالحين، الذي يُوجِد الودّ بين عباده، ويخلق الحب فيما بينهم، وهو الودود المحبوب من خلقه، فلا شيء أحب إليهم منه سبحانه.

واعلموا أن محبة الله في قلب العبد يجب أن تكون سابقةً لكل محبة، وغالبةً لكل مودة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة: 165]، وقال جل وعلا: ﴿إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود: 90]، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج: 14].

أيها المسلمون: أثنى الله تعالى على ذاته العلية فوصف نفسه بأنه الودود، وهو اسم يُسعِد العباد، مُحبَبٌ إلى القلوب والنفوس؛ كونه يرتبط بالحنان والعطف، والرحمة والحُبّ.

وقد ورد هذا الاسم العظيم في القرآن الكريم في سورتين:

في سورة هود، قال الله تعالى حكاية عن شعيب -عليه السلام- مخاطبًا قومه: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إليه إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود: 90].

والمرة الأخرى في سورة البروج في معرض ذكر عدد من صفات الله، قال سبحانه: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج: 14-15].

وفي سياق آخر جاء في القرآن أن الله تعالى هو الذي يضع المحبة والمودة في القلوب، كما في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: 96]، أي: محبة في قلوب الخلق، وقولِه تبارك وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إليها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21].

وفي الحديث القدسي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "إِذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ"([1]).

يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وما ألطف اقتران اسم الله الودود بالرحيم وبالغفور، فإن الرجل قد يغفر لمن أساء إليه ولا يحبُّه، وكذلك قد يرحم من لا يُحبُّ، والرب تعالى يغفر لعبده إذا تاب إليه، ويرحمه، ويحبُّه مع ذلك، فإنه يحب التوابين، وإذا تاب إليه عبده أحبَّه، ولو كان منه ما كان"([2]).

أيها المسلمون: والودود سبحانه هو المحِبّ الذي يحب رسله وأنبياءه، وأتقياءه وأولياءه، يتودد إليهم بالمغفرة والرحمة، ويقبل توبتهم، ويرفع أعمالهم، ويرضى عن سعيهم، ويحبّبهم إلى خلقه، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: 96]، أي: سيجعل لهم محبة وودا في قلوب أوليائه، وقبولاً عند أهل السماء والأرض.

فإذا أحبّهم الآخرون صار لهم في قلوبهم مكانةً وقدرًا، وتيسرت كثير من أمورهم، وحصل لهم من الخيرات والقبول والإمامة ما تقرّ به أعينهم، وتنشرح به صدورهم، وتسعد به حياتهم.

والودود سبحانه هو المحبوب من عباده الصالحين، قد امتلأت قلوبهم من محبته، فصار أحبَّ إليهم من أنفسهم وأولادهم ومن كل محبوب في الأرض، ولهجت ألسنتهم بالثناء عليه، وانجذبت أفئدتهم إليه ودًّا ومحبة وإنابة؛ لما عرفوا من كماله في ذاته وصفاته وأفعاله؛ فهو المستحق لأن يُوَد فيُعبَد ويُحمَد وحده؛ لكماله وجماله وجلاله وعظيم إحسانه.

والودود سبحانه هو الذي يزرع الود في القلوب، ويؤلف بين المختلفين بقدرته، ولا يقدر على ذلك إلا الله جل في علاه، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21]، أي: محبة ورأفة حادثة لم تكن بينكم من قبل، وهذا من جميل صنعه، وكمال قدرته، ونفوذ إرادته، وقوة اقتداره، وسعة رحمته وإحسانه؛ إذ المودة تعني علاقة الحب المتبادل في رحلة الحياة الزوجية، وهذا يفسّر ما نلمسه من تآلف وتأقلم بين الزوجين في وقت وجيز.

وقد أخبر تعالى عن يحيى –عليه السلام- أنه منحه حنانًا منه، فقال تعالى: ﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا [مريم: 13]، ولأن يحيى -عليه السلام- وهبه الله لوالديه مع تقدم العمر، والضعف الملموس، فإن طفلاً مثل يحيى -عليه السلام- يحتاج من الرعاية والحنان ما يعوضه حنان والديه، كما يحتاج إلى مَنْ يُعلِّمه ويُربِّيه، لذلك تولى الحق سبحانه وتعالى تربيته؛ رحمةً منه ورأفة، فتيسرت بها أموره، وصلحت بها أحواله، واستقامت عليها أفعاله.

واعلموا -إخواني- أن الودود سبحانه يؤلف بين القلوب بعد التفرق والتنافر، قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103]، وقال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَـمَيمٌ [فصلت: 34]، ويزرع سبحانه الوداد بين المؤمنين، قَالَ ﷺ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"([3]).

يا عباد الله: كثيرة هي الصور الدالة والناطقة بعظيم ودّ الله لخلقه ورحمته بهم.

ومن أهم مظاهر ودّ الله ولطفه بخلقه أن الكون مليء بما يتودد الله به إلينا، فإذا كنا نشعر بالأنس والسعادة مع الودود من الناس، أزواجًا كانوا أو أصدقاءَ أو غيرهمَ على ما فيهم من نقص، فكيف هو أنسنا بالودود سبحانه وتعالى؟

ومن لطيف ود الله تعالى بعباده في جميع أحوالهم أن تودد إليهم بنعمه المتوالية، وما شرعه لهم من الأحكام الميسرة، وقبول توبتهم إذا تابوا وفرحه بذلك، كما قال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء: 27].

ومن لطف الودود وإحسانه علمه بضعف الإنسان من جميع الوجوه، ضعف في عزيمته وإيمانه، وضعف في صبره وبدنه، وضعف في تصوره وإرادته، فلعلم الله تعالى بضعف هذا المخلوق فقد خفّف عنه ما لا يطيقه، قال سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 28]، وفي الأحكام والتكاليف راعى ربنا قدرة العبد واستطاعته، فقال تعالى: ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها[البقرة: 286]، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185]، أي أن الودود يريد لكم التخفيف ويريد بكم اليسر والسهولة، ولا يريد بكم العسر والمشقة، ولا يحب لكم العنت.

ومن وده سبحانه إرادته صلاحَ عباده، ونيلَهم خيره وفضله في الدنيا، ونعيمه ورضاه في الآخرة، فهو يتودد إلى عباده بحسن خطاب وأجمل عتاب، فسبحانه من ودود يعاتبك بودٍّ ويقول: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16]، فسبحان الودود الرحيم.

ومن وده سبحانه وتعالى أن ذكر الحكمة من مشروعية بعض تشريعاته، فمن ذلك مثلاً فرض الحجاب على النساء، فقد بيّن الله سبحانه أنه يريد صيانتهن من الأذى، وحفظهن من العبث؛ رفقا بهن ورحمة، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب: 59]، فلو فهمت المسلمة الحجاب بهذا الشكل، وأنه صيانة لها وحماية، وعبادة وقربة؛ لذابت شوقًا إلى الحجاب والستر.

أيها المسلمون: إن من علامات محبة الله للعبد ووده له أن ييسر له الأسباب، ويهوّن عليه كل عسير، ويوفّقه لفعل الخيرات وترك المنكرات، وأن يُقبِل بقلوب عباده المؤمنين إليه بالمحبة والوداد، وأن يَقْبَل منه القليل من العمل، ويغفر له الكثير من الزلل.

اللهم إنا نسألك ودك وحبك يا كريم.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

([1]) أخرجه البخاري (3209).

([2]) التبيان في أقسام القرآن (ص93).

([3]) أخرجه البخاري (3209).

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين، أما بعد:

اتقوا الله -عباد الله- واعبدوه، واشكروا له، وأخلصوا دينكم له، وأحبوا إخوانكم المسلمين، وابذلوا لهم خالص الود والرحمة، وافرحوا لفرحهم، واحزنوا لمصابهم، واعلموا أن المسلم الودود يكون كثير الودّ للمسلمين، يحب الخير للآخرين، فيحب للعاصي التوبة والمغفرة، وللمطيع الثبات وحسن المنزلة، ويعفو عمن أساء إليه، ويلين مع البعيد كما يلين مع أقرب الناس إليه، ويكون ودودًا لطيفًا، متأسيا بالأنبياء، فعن عبد الله بن مسعود t قال: "كأني أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهْوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ"([1]).

عباد الله: إن صور التعبد لله تعالى باسمه الودود كثيرة، منها:

حسن المرافقة والمصاحبة للآخرين، وتذكر جميل الآخرين، والوفاء للآباء الراحلين، فعَن ابنِ عُمَرَ 5 أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُاللهِ، وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ لَهُ: أَصْلَحَكَ اللهُ، إِنَّهُمُ الأَعْرَابُ وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: "إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ"([2]).

ومن صور التعبد للودود: مودة الرجل لزوجته ورِفقه بها، وكذلك مودة المرأة لزوجها، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21].

ولقد دعا الإسلام إلى تفعيل دور المودة في المجتمع انطلاقًا من اسم الله الودود، ففتح القرآن الكريم أمامنا باب الأمل والطمع في اصطناع المودة، وأولى الناس استحقاقًا لتلك المودة رسول الله ﷺ، قال تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6]، ثم محبة المؤمنين جميعا ومودتهم، قال تعالى: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [التوبة: 71]، وقال تعالى: ﴿رحماء بينهم[الفتح: 29].

والمودة والمحبة بمعنى واحد، إلا أن الود أشمل وأعم من الحب، فالحب يعبّر عن المشاعر النفسية داخل الإنسان، أي: ما تُكنّه في قلبك للآخرين، والود يعني التعبير بالأفعال عن تلك المشاعر، أي: أن الحب إحساس داخلي، والود ترجمة وتحويل تلك الأحاسيس الداخلية لأفعال وتصرفات، فحينما تُكِنّ لأخٍ لك مشاعر جميلة في قلبك فهذا حبّ، لكن عندما تبتسم في وجهه، أو تقدم له خدمةً أو هدية فإن ذلك تعبيرا منك عما في باطنك من حب وتقدير، ولهذا فكل ودود مُحبّ، وليس كل مُحِبّ ودودًا.

واعلموا -عباد الله- أن العداوة والشدة على الكفار والمشركين مشروعة في حالة بقائهم على الكفر ومناصرتهم له، أما إن انتقلوا إلى الإسلام فستنقلب تلك العداوة إلى مودة ورحمة، وليس إيمانهم بعيدًا أو معجزًا في حق الله القادر على هداية من يشاء، قال تعالى: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيم [الممتحنة: 7]، وقال سبحانه: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة: 11].

واعلموا أن القسط معهم، والبر بالقريب منهم لا حرج فيه، إذا لم يحملوا على المسلمين سلاحًا، ولم يشاركوا في إخراجهم من بلادهم، قال الله تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8].

أيها المسلمون: اتقوا الله، وتعرضوا لمحابه ومواطن رضاه حتى تكتسبوا ودّه، واحرصوا على امتثال ما يحبه الله ويرضاه، واجتناب ما يبغضه ويسخطه، وتوددوا إلى ربكم كما تودد إليكم بإدرار نعمه وفضله، وأحبوه كما أحبكم، وأحسنوا إلى خلقه كما أحسن إليكم.

فأَقْبِلْ -يا عبد الله- على الله بمنتهى الحب، واملأ قلبك بخالص ودّه، وليكن حظه منك أعظم من حظ نفسك ووالديك وزوجك وولدك والناس أجمعين، فعن ابن عباس 5 قال: قال رسول الله : "أحبوا الله لما يغذوكم به من نِعَمه"([3]).

وإياك أن تفرط في نَيْل وُدِّ الله بتقصيرك في شرعه، ونسيانك لشكره، وتعديك على حدوده، حتى لا تخسر محبة الله ووده، وينقلب ذلك إلى غضب ومحق ونقمة عاجلة أو آجلة، نسأل الله السلامة والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

وإذا أردت أن يكون لك حظ عظيم من اسم الله الودود فتودد إليه بالأعمال الصالحة؛ لتنال محبة الله عز وجل وملائكته، وليُبسَط لك القبول في الأرض.

وكُن -أخي- ودودًا مع الآخرين، مع والديك وأهلك، وأرحامك وجيرانك، ومع إخوانك وزملائك في العمل، كُن ودودًا مع مرؤوسيك وخدمك ومن تحت يدك من عمال، عاملهم برقة وعطف، وتعلّم من نبيك الود مع خلق الله، فقد جاءته  قبيلة أسلمت، اسمها أسلم، فقال لها ﷺ: "أسلم سالمها الله"([4])، فاختار الكلمات الودودة، وتأتيه قبيلة أخرى مسلمة اسمها غِفَار، فيقول: "غِفَار غفر الله لها"([5])، فانظر كيف اختار الألفاظ والكلمات التي تدل على الحب.

عباد الله: وإن محبة الودود سبحانه ينجو بها العبد من عقاب ربه، ويحتمي بها من عذابه وسخطه، ومثل هذا الفضل ينبغي ألا يُتعوض عنه بشيء، وأبشر فإن حب الله لك حجاب، وودّه لك سِتْر، فهو الودود، من أحبه رحمه وأكرمه.

وينبغي أن يحرص العبد على دعاء ربه باسمه الودود، عملا بقول الله تعالى: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: 180].

وذكر الله سبحانه باسمه الودود يغمر القلوب بالراحة، والطمأنينة، والفرح به عز وجل، فما أعظم تلك المشاعر حينما نعلم أن العلاقة بين السيد والعبد في الدنيا عادة ما تكون محدودة في الأوامر والنواهي، خالية من أي مشاعر للحب ومظاهر والرحمة والود، وأما الودود سبحانه الخالق الحكيم، والمالك المتصرف في كل شيء، صاحب الأمر والنهي، فعلاقتنا به علاقة المحب الرحيم، والمشفق الكريم، واللطيف الحليم بعباده.

وختامًا -أيها الأحبة- ليس العجب في مودة العبد لسيده وموالاته له، فهو في حاجة دائمة إليه، لكن العجب كل العجب في مودّة الربّ الغني لعبده الفقير، فإن الرب سبحانه يحب عبده، قال تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54].

فاحرص أن تكون ممن يحبهم رب العزة؛ لأنه إن أحب أجزل بالعطاء، وأعظم لك المثوبة، ويسر لك الخير حيث كان، وإلى هذا المعنى أشار الحديث القدسي، قال ﷺ: "إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ"([6])، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.

اللهم اغمرنا بودك، وامنحنا رحمتك، واكتبنا في السعداء، وجنبنا موارد الأشقياء.

اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم([7]).

 
 

([1]) أخرجه البخاري (3477)، ومسلم (3477).

([2]) أخرجه مسلم (2552).

([3]) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4716).

([4]) أخرجه البخاري (1006)، ومسلم (2515).

([5]) أخرجه البخاري (1006)، ومسلم (2515).

([6]) أخرجه البخاري (6502).

([7]) الخطبة من ملتقى الخطباء، الفريق العلمي.

عدد الكلمات

4411

الوقت المتوقع

13 د


منبر الحسنى

تاريخ الطباعة/التصدير: 2025-04-26 00:35م