اسم الشكور

اسم كاتب الخطبة: ملتقى الخطباء، الفريق العلمي

الخطبة الثانية بعنوان: بدائع الزهور في فقه اسم الله الشكور

الخطبة الأولى

الحمد لله الكبير المتعال، مدبر الأمور من حال إلى حال، ذي النعم والمكارم والإفضال، مجري السحاب، ومنزل الكتاب، مسبب الأسباب، وهازم الأحزاب، إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب، والصلاة والسلام على أغلى الأحباب، وقدوة الشيوخ والشباب، نبينا محمد بن عبد الله، صلوات ربي وتسليماته عليه ما أدبر ريح وأقبل سحاب، أما بعد:

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل كما أمر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، وبذل المجهود في تحصيلها وتكميلها، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا [التغابن: 16]، فهي خير الوصايا من رب البرايا ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131].

عباد الله: إن الشكر من أعلى المقامات الإيمانية، وأرقى العبادات القلبية، أمر الله عز وجل به في مواطن كثيرة في كتابه، وقرنه بالذكر تارة، وبالدعاء تارة، وبالصيام تارة، وبالنجاة من العدو تارة، وبالبعث بعد الموت تارة.

بل إن أنبياء الله عز وجل قد جاؤوا جميعا بحض أقوامهم على تحقيق الشكر لله على نعمه وآلائه، والآياتُ الدالة على ذلك كثيرة جدا يضيق المقام عن حصرها وذكرها.

ولعظم مكانة الشكر وأثره الإيماني والتعبدي على حياة المسلمين، فقد شن إبليس لعنه الله الغارة على تلك العبادة العالية، وجعل من جل تركيزه صرف الناس عن شكر ربهم والثناء على نعمائه، وذلك لأن إبليس يعلم جيدا عاقبة الشاكرين وأثر الشكر في تغيير حياة الناس، قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 17]، وللأسف الشديد صدَّق إبليس ظنه على كثير من الناس، فقل شكرهم وغاب ثناؤهم، قال الله في ذلك: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13]، وقال ﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الأعراف: 10].

ولعل السبب الرئيسي وراء غياب هذه العبادة الكبرى عن حياة كثير من الناس أنهم لم تتنور قلوبهم وعقولهم بفهم أسماء الله وصفاته، وغاب عنهم العلم والفقه لمعاني ودلائل اسم الله الشكور.

هذا الاسم العظيم المبارك المقدس الذي يرقق القلوب القاسية، وينير أرجاء النفوس الغليظة التي لا تعرف شكرا وتقديرا لنعمة أو معروف من الخالق أو من المخلوقين، كما قال الحبيب محمد ﷺ: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس"([1]).

عباد الله: إن حقيقة الشكر هو الثناء على المحسن بذكر جميله، وهو عِرْفانُ الإِحسان ونَشْرُه، كرد للجميل والمعروف، حتى ولو بكلمة طيبة تظهر فضل المحسن، أو بإظهار المودة له.

أما الشُّكْر من الله تَعَالَى فهُوَ إثابته الشاكرين على شكرهم، وجزاؤه على القليل بالكثير، وثناؤه عليهم بذكر إحسانهم إليه، وإنعامه على العبد بالتوفيق لشكره.

والشكور في اللغة كثير الشكر، وهو من صيغ المبالغة لاسم الشاكر.

وشكر العبد لله تعالى هو ثناؤه عليه بذكره وذكر إحسانه إليه، وإحسان العبد في طاعة الله تعالى.

وقد ورد اسم الله الشكور في القرآن مقترنا مع أسماء معينة من أسماء الله الحسنى، ليعطي دلالاتٍ وإشاراتٍ زائدةً على معنى اسم الله الشكور.

ومن هذه الأسماء اسم الله الغفور، فقد اقترن اسم الشكور باسم الغفور ثلاث مرات، وهذا يفيد أنه غفور لمن عصاه، وشكور لمن أطاعه، أي غفور لذنوبهم وشكور للقليل من أعمالهم، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 29-30]، فهو غفور يغفر الكثير من السيئات ويسترها، وشكور يضاعف القليل من الحسنات ويزيدها.

ومن الأسماء المقترنة باسم الله الشكور اسم الحليم، وذلك مرة واحدة في قوله تعالى: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [التغابن: 17]، وهو يفيد أنه سبحانه شكورٌ يثيب من أطاعه بأضعافٍ مضاعفة، ويثيب على القليل بالكثير مع علمه التام المحيط بقدر الجزاء، حليمٌ لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يمهله ولا يهمله، ويصفح ويتجاوز عن الذنوب والسيئات.

ومما ذكره العلماء من معاني شكره سبحانه قول السعدي -رحمه الله-: "هو الشكور الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا، بل يضاعفه أضعافاً مضاعفة بغير عدٍ ولا حساب، ومن شكره أنه يجزي بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وقد يجزئ الله العبد على العمل بأنواع من الثواب العاجل قبل الآجل، وليس عليه حق واجب بمقتضى أعمال العباد، وإنما هو الذي أوجب الحق على نفسه كرماً منه وجوداً، والله لا يضيع أجر العاملين به إذا أحسنوا في أعمالهم وأخلصوها لله تعالى"([2]).

عباد الله: ولاسم الله الشكور معانٍ عظيمة:

فمن معانيه: أنه يزكو عنده القليل من الأعمال، فيضاعف للعباد بها الجزاء، فالله سبحانه يشكر القليل من العمل، ويغفر الكثير من الزلل، ويضاعف للمخلصين أعمالهم بغير حساب.

كما أن من معانيه: أنه الشاكر لمن أقبل عليه وأحسن إلى عباده، فيشكر لهم، ويرفع قدرهم، ويحسن عاقبتهم، ويثني عليهم، ، قال ﷺ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ"([3]).

ومن معاني الشكور: أنه الذي يعطي عطاء يليق بعظمته وبملكه، عطاء ليس له حد ولا عد، فالحسنة بعشرة أمثالها، وهذا العطاء لا يوجد إلا عند مالك الملك، فهو يرزق وينعم دون منة ولا عوض، ولا يطلب على نعمه مقابلاً، ودليل ذلك أنه يرزق البر والفاجر، وينعم على عباده ويتم إنعامه عليهم وإن عصوه، وإن لم يكونوا أهلا لذلك الفضل، أو أهلا لتلك النعم، بخلاف البشر فإنهم يعطون ثم يمنون، وإذا عصيتهم منعوك، أما الشكور سبحانه فمهما قدمت من قليل فلابد أن يشكرك عليه ويضاعف لك ذلك أضعافاً مضاعفة: ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً [الشورى: 23].

والعبد المؤمن إذ فقه اسم الله الشكور وجب عليه أن يقوم بمقتضى هذا الاسم من التعبد لله عز وجل بشكره، وإن من أعظم الشكر لله على نعمه تحقيقَ التوحيد الخالص له سبحانه، وصرفَ جميع أنواع العبادة له وحده، وامتثالَ أوامره، واجتنابَ نواهيه، والقيامَ بتعظيمه والثناء عليه بما هو أهله، واستعمالَ كافة نعمته في مرضاته؛ لأنه مالكها وصاحبها، وهو الذي أوجدها من العدم، ورزق الإنسان وسائر المخلوقات، ولم يشاركه في ذلك أحد.

ونحن -عباد الله- لو قمنا بواجب بشكر الله عز وجل فإن الشكور سبحانه ينوع علينا صنوف الشكر الإلهي، والجزاءُ من جنس العمل، والحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.

والناظر إلى نصوص الشريعة المطهرة من قرآن وسنة يجد أن صور شكر الله لعباده كثيرة ومتنوعة وواسعة وعظيمة، منها:

أولا: مضاعفة الحسنات والتجاوز عن السيئات، فمن عظيم شكره سبحانه لعباده وفضله عليهم أنه يضاعف لهم الأعمال الصالحة أضعافاً كثيرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة: 245]، هذا شكره وفضله في الحسنات، أما السيئات فإنه لا يضاعفها بل السيئة بمثلها، وتمحى بالتوبة والاستغفار.

وجميع النعم التي يتنعم بها الخلق من رزق، وعافية، وأمن، وسرور، وأهل، ومال، وولد، هي من المنعم، قال سبحانه: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [النحل: 53-54]

ثانيا: المحافظة على الأعمال، فمن شكره سبحانه لعباده أنه لا يضيع عمل عامل، بل يجازي حتى عدوه وهو من أبغض خلقه إليه بما يفعله من المعروف في الدنيا، ولا يمنعه عصيان العاصي أن يوفيه حقه.

كما أنه يشكر بعض عباده فيخرجهم من النار بأدنى مثقال ذرة من إيمان.

ومن شكره أنه لا يضيع أجر محسن، ولا يعذب غير مسيء.

ومن شكره سبحانه أن العبد من عباده يقوم لله مقاماً يرضيه بين الناس فيشكره له، وينوه بذكره، ويخبر به ملائكته وعباده المؤمنين، فينتشر صيته بين العالمين ومحبته بين الخلق أجمعين.

ثالثا: المجازاة على النية الصالحة، فالله الشكور يشكر حتى على النية الحسنة ولو لم تترجم إلى عمل فعلي، فلو تمنيت أن تكون غنيا لتتصدق بأموالك على الفقراء فإن الله سيجازيك على هذه النية الحسنة.

وحلاوة الشعور بأن الله يشكرك أحلى من كل عطاء تأخذه، فهو يشكر لعباده حسن الأداء أفلا يشكرون له حسن العطاء: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]، وعَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ t، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ، يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ"، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ"([4])، فهل يبق بعد هذا الشكر العظيم عذر لقاعد عن فعل الخيرات أو حتى نية فعلها!

رابع صور شكر الله للعباد: الثواب الكبير على العمل اليسير، فالله تعالى الشكور يشكر اليسير من العمل فيجازي عليه بالكثير، وهذا كثير في نصوص الشرع المطهرة، وقصة المرأة البغي التي سقت كلبا فشكرها الله فغفر لها خير دليل، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ"([5]).

ولا ننسى ما جاء من حديث أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ t، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ، فَقَالَ: هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُ مِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ"([6]).

ومن نوادر الحكم أن الله قد حرم الربا على عباده فيما بينهم، ولكنه سبحانه قد أحله بينه وبين عباده في العوض والجزاء، ولن يكون عبد مهما جاد بنفسه وسخا بماله أكرم من الله، بل لا يقدر أن يؤدي شكر نعمة الله عليه.

خامسا: أعظم صور الشكر من الله عز وجل دخول الجنة، فالشكور سبحانه يجازي عمل الدنيا بالجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهذا من الشكور الذي شكر لك عمل الدنيا المحدودة بجنة خالدة لا منتهى لها.

سادسا: ومن صور شكره عز وجل لعبده أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومن تقرب منه شبراً تقرب منه ذراعاً، ومن تقرب منه ذراعاً تقرب منه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، ومن عامله ربح أضعافاً مضاعفة.

فإذا قام العبد بأوامره، وامتثل طاعته أعانه على ذلك، وأثنى عليه، ومدحه، وجازاه في قلبه نوراً وإيماناً وسعة، وفي بدنه قوة ونشاطاً، وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء، وفي أعماله هدى وتوفيقا، ثم بعد ذلك يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملاً موفوراً، لم تنقصه هذه الأمور.

فاللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين الذاكرين الحامدين.

اللهم إنا نسألك شكرك، وشكر خلقك، وشكر كل من أسدى إلينا معروفا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

([1]) أخرجه أبو داود (4811)، والترمذي (1954).

([2]) انظر: تفسير أسماء الله الحسنى للعبيد (ص210).

([3]) أخرجه البخاري (652)، ومسلم (1914).

([4]) أخرجه الترمذي (2325)، وابن ماجه (4228).

([5]) أخرجه البخاري (3467)، ومسلم (2245).

([6]) أخرجه مسلم (1892).

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصبحه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله: فإن من العجيب حقا في لطائف ومعاني اسم الله الشكور أنه مع كل هذا العطاء والرزق والهبات التي وهبها للإنسان يكون شكورا له، فهو سبحانه يشكر العبد على طاعته على الرغم من أنه هو الذي أعانه ووفقه، فالله أعانك وألهمك وأمدك بأسباب الخير، وعندما تفعل هذا الخير يشكرك عليه.

وشكر الله للبشر يختلف عن شكر البشر لربهم، فشكر الإله ليس شكراً عاديا بل أضعافا مضاعفة، ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 30]، وقال تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40].

وتجد في القرآن الكريم كلمة شكور مرتبطا بها الزيادة؛ لأنه ليس أحد أكرم من الله ولا أحفظ للمعروف منه، قال تعالى: ﴿وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ [الشورى: 23].

فقد شكر الله لسعد بن معاذ t كما روى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t، قَالَ: لَمَّا حُمِلَتْ جَنَازَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ t قَالَ المنَافِقُونَ: مَا أَخَفَّ جَنَازَتَهُ؛ وَذَلِكَ لِحُكْمِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: "إِنَّ الملَائِكَةَ كَانَتْ تَحْمِلُهُ"([1]).

وشكر لجعفر بن أبي طالب t بعد قطع يديه في غزوة مؤتة، قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة"([2]).

كما شكر ربنا لإبراهيم -عليه السلام- حين وفى طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه أن جعله إماما يقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله، وجعل النبوة في ذريته -عليه السلام-.

والناس مع نعم الله سبحانه بين شاكر ذاكر وكافر غافل، وأكثر الناس عن شكر هذه النعم غافلون، وهم في نعم الله غارقون، ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [غافر: 61]، وذلك بسبب غياب فقه أسماء الله وصفاته والعلم بمقتضياتها ومعانيها، ولو فقهها العباد لشكروا الله على كل نعمة، فهو سبحانه المحمود على نعمه التي لا محصي لها إلا هو، المحمود على خلقه وأمره، وقضائه وقدره، ودينه وشرعه.

والكافر إنما سمي كافراً لأنه يغطي نعمة الله التي أسبغها عليه، ويجحدها ولا يقر بها، كما قال سبحانه عن الكفار: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل: 72].

ولو سألت -يا عبد الله- عن كيفية شكر نعم الله والقيام بواجب العبودية للشكور المنعم الشاكر، فإن الشكر لله يكون بالقلب وهو الإقرار والاعتراف بالنعمة أنها من عند الله، وباللسان بحمد الله وشكره عليها، وبالجوارح وذلك بالاستعانة بهذه النعم على طاعته سبحانه.

وشكر اللسان هو الثناء على المنعم بفضله، وشكر الجوارح هو مكافأة النعمة بفعل الجوارح من خلال خضوعها واستجابتها لأمر الله ونهيه، قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13].

وكان نبينا ﷺ خير الشاكرين، وقد تجلى هذا الشكر في عبادته وطول قيامه -عليه الصلاة والسلام- كما في حديث الْمُغِيرَةَ -t يَقُولُ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَو سَاقَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: "أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا"([3]).

والسؤال الذي لابد أن يثور في أذهاننا جميعا، ويسأله كل واحد منا لنفسه إن أراد السعادة في الدارين، وهو: كيف أكون عبدا شكورا؟، وكيف يحيى العبد في ظل اسم الله الشكور؟ وما الذي يجب على كل واحد منا للقيام بحق الشكر للشكور المنعم؟

اعلم -يا عبد الله، يا من اصطفاه مولاه واجتباه، وإلى طريق العلم والفقه بأسماء الله وصفاته هداه- أن المرء لابد أن يسلك نمطا جديدا في العيش لتحقيق شكر الله عز وجل، نمطا ترتقي فيه الأخلاقيات والسلوكيات والعادات والعلاقات، ومن أهم الأسس التي يحقق بها العبد مقام الشكر للشكور الشاكر المنعم ما يلي:

أولا: سخاء النفس واليدّ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ"([4]).

فهذه شكر الله عز وجل في الدنيا والآخرة للباذل، يجازيه بخير مما بذل في الدنيا، فكيف بالآخرة حين يرى الوفاء والجزاء من رب الأرض والسماء.

ثانيا: الإخلاص، فالله الشكور هو من سيشتري منك بأغلى سعر وأفضل ثمن، وليس هناك أحد غيره سيعطيك من الأرباح أكثر، فإياك أن تبيع للشكور ثم تبيع لغيره، لا تشرك معه أحدا، أحيانا يتأخر العطاء ليختبر الله إخلاصك، وإياك  -يا عبدالله- أن تذهب لأصحاب المناصب وغيرهم إذا تأخر شكر الله لك، أخلص وستجد ما تقر به عينك، وتطمئن إليه نفسك.

ذات يوم أقبلت قافلة إلى المدينة، فسمع أهل المدينة للأرض رجفاً وهزاً، حتى تساءل الناس: ما الذي حل بالأرض؟ فقالوا: قافلة لعثمان بن عفان t قدمت من الشام بألوان المتاجر والملابس والقماش، فجاء التجار يهرعون إلى عثمان بن عفان t، قالوا: شرينا شرينا يا عثمان، فقال: إني بعت، فقالوا: شرينا، فقال: كم تعطونني؟ قالوا: نعطيك في الدرهم اثنين، قال: قد أعطيت أكثر، قالوا: نعطيك في الدرهم ثلاثة، قال: قد أعطيت أكثر، فما زالوا به حتى أعطوه في الدرهم سبعة، فقال: لقد أعطيت فيه عشرة، فقالوا: ما صدقت يا عثمان، من الذي يعطيك عشرة ونحن تجار المدينة ولا ينافسنا أحد؟ فقال: إن ربي عز وجل قد أعطاني في الدرهم عشرة، إن الحسنة بعشر أمثالها، وتصدق بالقافلة كلها على فقراء المدينة([5]).

ثالثا: شكر الناس، فكثير من الناس لا يحسنون أن يشكروا خلق الله على صنائع المعروف والإحسان، وهذا النسيان أو التناسي يورث الصدور عداوة وبغضاء عميقة.

وشكر المعروف والثناء على الناس يملأ النفوس راحة وسرورا، وإن الخطوة الأولى لاعتياد شكر نعمة الله يكون بشكر الناس على معروفهم وإحسانهم، فعن أبي هريرة t أن النبي ﷺ قال: "لاَ يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ"([6]).

وعن ثَوْبَانَ t قَالَ لَمَّا نَزَلَتِ: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التوبة: 34] قَالَ: كُنَّا مَعَ النبي ﷺ في بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أُنْزِلَ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا أُنْزِلَ، لَو عَلِمْنَا أيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ، فَقَالَ: "أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ"([7])، فالقلب الشاكر سيعينه على شكر الخالق وشكر المخلوقين، والقيام بهذا الحق الكبير.

وختاما -أيها الأخوة- إن الله عزَّ وجلَّ قد أكثر من تَعداد نعمه على عباده، فلم يترك لجاحد مجالاً أن ينكر نعم الله عليه، بل لو أراد الإنسان أن يحصي ما في جسده من نعم الله وآلائه لعجز، فكيف لو أراد أن يحصي نعمه على جميع خلقه، وآلاءه في السماوات والأرض، ونعمه في الدنيا والآخرة، إن ذلك لا يمكن تصوره، فضلاً عن عده، ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 18]، بل يقف العقل حائرا، والفكر مندهشا، والقلب مخبتا، لما يلمسه من نعم الله السابغة.

فهيا بنا -إخوة الإيمان والإسلام- إلى الروضة الغناء، إلى طاعة الله والعلم بأسمائه وصفاته، والعمل بمقتضى هذا العلم، فأكثروا من الخير والعبادة، ولا تحقروا من المعروف شيئا ولا من الخير قليلا، فما تدري أي الأعمال أنفع عند الله وأثقل في الميزان، قَالَ ﷺ: "صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ"([8]).

علينا أن ندعو الشكور بهذا الاسم، ونجتهد في الدعاء به، فقد قال سليمان -عليه السلام-: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ [النمل: 19].

اللهم ألهمنا شكرك وأعنا عليه، واجعل حياتنا مليئة بالطاعة والعبادة المرضية التي ترضيك عنك، وعاملنا بما أنت أهله، فأنت أهل التقوى وأهل المغفرة، يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.

اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مُضلين، سلما لأوليائك، وعدوا لأعدائك، نحب بحبك مَن أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك.

اللهم أعطنا اٍيمانا ويقينا ليس بعده كفر، ورحمةً ننال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة.

اللهم اٍنا نسألك الفوز في العطاء والقضاء، ونُزُل الشهداء، وعيش السُعداء والنصر على الأعداء.

اللهم ذا الحبل الشديد والأمر الرشيد نسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود مع المقرّبين الركّع السجود الموفين بالعهود، اٍنك رحيمٌ ودود.

اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد ﷺ، ونعوذ بك من شر ما استعاذ منه نبيك محمد ﷺ، وأنت المستعان، وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة اٍلا بالله([9]).

 
 

([1]) أخرجه الترمذي (3849).

([2]) أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (4/39).

([3]) أخرجه البخاري (1130)، ومسلم (2819).

([4]) أخرجه مسلم (2699).

([5]) انظر القصة في «الشريعة» للآجري (4/2012)، وفي «الرقة والبكاء» لابن قدامة (ص189، 190).

([6]) أخرجه أبو داود (4811)، والترمذي (1954).

([7]) أخرجه الترمذي (3094)، وابن ماجه (1856).

([8]) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (8/261/8014).

([9]) الخطبة من ملتقى الخطباء، الفريق العلمي.

عدد الكلمات

5032

الوقت المتوقع

23 د


منبر الحسنى

تاريخ الطباعة/التصدير: 2025-04-26 02:18م