اسم التواب

اسم كاتب الخطبة: ملتقى الخطباء، الفريق العلمي

التواب

وفي هذا الاسم خطبة واحدة بعنوان: اسم الله التواب

الخطبة الأولى

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70-71]، أما بعد:

أيها المسلمون: لقد تكاثرت علينا ذنوبنا حتى أرهقتنا، فلنا في كل صباح ذنب، وفي كل مساء ذنب، بل لنا في كل ساعة ذنب، وفي كل جلسة ذنب، وفي كل نظرة ذنب، حتى تراكمت علينا الذنوب والأوزار، وعندها يظن المرء أنه هالك لا محالة بسبب ذنوبه؛ فالذنوب مهر جهنم.

ساعتها يبحث الإنسان عن دواء لذنوبه فلا يجده إلا في التوبة وحدها، ومن أجل ذلك سمى الله عز وجل نفسه التواب.

التواب هو الذي تاب على آدم أبي البشرية لما أكل من الشجرة المحرمة، قال تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 37]، وتاب على الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك، قال عز من قائل: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 118]، ويتوب كذلك على كل من تاب مخلصًا من قلبه، قال سبحانه: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 104]، ووعد كل من أغرقته الذنوب وأراد الأوبة والرجوع أن يتوب عليه قائلًا عز من قائل: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء: 64].

أيها المؤمنون: إن من أسماء الله تعالى التواب، أي كثير المتاب على عباده، الذي لم يزل يتوب على كل من تاب وندم ورجع، وهو التائب عليهم قبل ذلك حين رغبهم في التوبة ودلَّهم عليها، وعرَّفهم أنها دواء الذنوب، وخوَّفهم من تركها.

وعلى ذلك فإن توبة الله تعالى تشمل أمرين:

الأول: قبل أن يتوب العبد، بأن يرغَّبه في التوبة، ويوفقه إليها، ولولا ذلك ما تاب.

والثاني: بعد أن يتوب، بأن يقبل منه توبته، ويمحو عنه ما اقترف من الذنوب.

عباد الله: ولما كان الله تعالى هو التواب كانت لتوبته عز وجل خصائص تليق بجلاله وكماله، ومن تلك الخصائص:

أولًا: توبة الله وقتها ممتد إلى أحد الأجلين الموت أو قيام القيامة، فأما الأجل الأول فعن عبد الله بن عمر 5 عن النبي ﷺ قال: "إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر"([1])، وأما الأجل الثاني فعن صفوان بن عسال t قال: قال رسول الله ﷺ: "إن من قِبَل مغرب الشمس بابًا مفتوحًا، عرضه سبعون سنة، فلا يزال ذلك الباب مفتوحًا للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه، فإذا طلعت من نحوه لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا"([2]).

فمن تاب قبل الأجلين تاب الله عليه، فعن أبي موسى t أن النبي ﷺ قال: "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها"([3]).

ثانيًا: توبة الله تسع جميع الذنوب والخطايا والأوزار مهما بلغت، فلا يعظم عليها ذنب، ومن ظن أن ذنبه أكبر من أن تسعه توبة الله فقد ارتكب خطيئة هي أعظم من ذنبه الأول.

وهذا نموذج لرجل سفك الدم الذي حرمه الله، مرتكبا ذنبا من أعظم الذنوب عند الله، فلما تاب تاب الله عليه، فعن أبي سعيد الخدري t أن نبي الله ﷺ قال: "كان ‌فيمن ‌كان ‌قبلكم ‌رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاه ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة"([4]).

ثالثًا: توبة الله تبدل الذنوب حسنات، فيا سعْدَ من أدركته توبة التواب عز وجل، الذي قال بعد أن ذكر من أصناف الذنوب الموبقات التي توجب العذاب: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان: 70-71]، أي: متابًا مقبولًا، قال ابن كثير: "أي: فإن الله يقبل توبته"([5]).

رابعًا: توبة الله تحوطها البهجة والفرحة، ولا يسودها الأسى والحزن، فعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: "لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها"([6]).

أيها المسلمون: إن العبد إذا تعرَّف على اسم الله التواب، وعاش في ظلاله انهمرت عليه من المعاني والبركات والنفحات ما يشرح صدره، ويهذب جوارحه، ومن تلك الفيوضات التي ينتفع بها العبد من معايشته لاسم الله التواب ما يلي:

أولًا: ألا يقع العبد في سجن ذنبه، فإن الشيطان -دائمًا وأبدًا- يجهد ويكد ليصنع من ذنوب العبد سجنًا له يحبسه فيها عن ربه، فيُيَئِّسه من رحمته، ويوسوس له فيقول: إن ذنبك أعظم من أن يُغفر، كيف تُقبل على الله وقد اقترفت وارتكبت كذا وكذا، فلا يزال العبد -إن طاوع شيطانه- حبيسًا في سجن ذنبه لا يبارحه، لكنه إن علم وأدرك سَعة توبة الله عز وجل، وأنه سمى نفسه التواب ليتوب عليه وعلى أمثاله من المذنبين، إن علم ذلك نفض وسوسة الشيطان عنه، وهرع نادمًا تائبًا راجعًا إلى ربه مقبلًا عليه.

ثانيًا: شدة اللجوء إلى الله تعالى والتعلق به، فما دام الإنسان يعلم أنه ضعيف بأصل خلقته، لا مهرب له من الوقوع في الذنوب، كما قال ﷺ: "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"([7])، فإنه يدرك حاجته الماسة إلى توبة التواب سبحانه؛ ليغسله من ذنوبه كلما غلبته نفسه، وارتكس في وحل الخطيئة، فيلجأ إلى التواب عز وجل ليخرجه من ظلمات الذنوب إلى فجر التوبة وضيائها.

ثالثًا: تنقية توحيد العبد لربه وتخليصه من الشوائب، فإن المسلم إذا قارف ذنبًا وأحس به كجبل يوشك أن يسقط عليه، وضاقت عليه الدنيا بما رحبت، وضاقت عليه نفسه بحث عن الخلاص مما هو فيه، فلا يجد عند أحد دواءً ولا شفاءً من ذنبه ذلك إلا عند التواب وحده لا شريك له، وعندها يوقن أنه لا يغفر الذنوب، ولا يتوب على المذنبين إلا التواب عز وجل، وأن سواه لا يملك من شأن التوبة والغفران شيئًا، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 135]، وما تاب التواب على الذين خلفوا إلا حين أدركوا ﴿وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة: 118]، وقد علَّمنا نبينا ﷺ في سيد الاستغفار أن نقول: "فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"([8]).

رابعًا: الحياء من الله عز وجل، فإن العبد يذنب الذنب في مخالفة وعصيان لأوامر الخالق الجبار سبحانه، ثم يندم ويتوب، فيلقاه الله تعالى بالفرح والتوبة، لا بالعقاب ولا بالعتاب، كأن العبد لم يكن منه مخالفة ولا ذنب.

فإذا استشعر العبد ذلك تملكه الحياء من عفو العفو سبحانه، ومن صفحه، ومن توبته عليه، وفرحه به مع قبيح عصيانه وخطيئته، فلا يزال حييًا منه حتى يدع مخالفته ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

 

([1]) أخرجه الترمذي (3537)، وابن ماجه (4253).

([2]) أخرجه ابن ماجه (4070).

([3]) أخرجه مسلم (2759).

([4]) أخرجه البخاري (3470)، ومسلم (2766).

([5]) تفسير ابن كثير (6/130).

([6]) أخرجه مسلم (2675).

([7]) أخرجه الترمذي (2499)، وابن ماجه (4251).

([8]) أخرجه البخاري (6323).

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

عباد الله: لما كان من أسماء الله الحسنى التواب، وكانت لتوبته عز وجل هذي الخصائص التي أوردنا، ولم يكن لتوبته تعالى قيد ولا حد، وكانت ذنوبنا لا حصر لها ولا عد، وجب أن يسارع العبد إلى التوبة والرجوع والأوبة، فقد خاطبنا ربنا عز وجل قائلًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التحريم: 8]، وقال عز من قائل: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].

ولعلنا لاحظنا في الآيتين أن الله تعالى قد طلب المؤمنين أنفسهم التوبة، فلم يقل: يا أيها الظالمون توبوا، ولم يقل: وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المذنبون، وإنما طلبها من المؤمنين.

فما أحوجنا -معشر المؤمنين- أن نتوب ونرجع إلى الله في كل حين، فهذا رسول الله ﷺ المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يستغفر ربه ويتوب إليه كثيرا، فقد سمع أبو هريرة t رسول الله ﷺ وهو يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"([1]).

فاللهم تب علينا كي نتوب، واغفر لنا الذنوب، وطهر قلوبنا بتوبة نصوح تعفو بها عنا، وتسترنا بها يا تواب يا رحيم.

وصل اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين([2]).

 
 

([1]) أخرجه البخاري (6307).

([2]) الخطبة من ملتقى الخطباء، الفريق العلمي.

عدد الكلمات

2719

الوقت المتوقع

45 د


منبر الحسنى

تاريخ الطباعة/التصدير: 2025-04-26 00:55م