- الستير
وفي هذا الاسم خطبة واحدة بعنوان: اسم الله الستير
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها المؤمنون: إن العبد بطبيعته يقع في الذنب تلو الذنب، ويقارف المعصية تلو المعصية، وربُّه الرحيم يستره ولا يفضحُه، ويمهلُه ولا يعاجله، وذلك أنه سبحانه هو الستير على عباده.
وهو الحَيِيُّ فَلَيسَ يَفْضَحُ عَبْدَهُ *** عندَ التَّجَاهُرِ مِنْهُ بالعِصْيَانِ
لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيْهِ ستْرَهُ *** فَهْوَ السَّتِيرُ وصَاحِبُ الغُفْرَانِ
عباد الله: إن لله سبحانه أسماءً هي من أحسن الأسماء، وصفاتٍ هي من أكمل الصفات، قال أعز القائلين: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180].
ومن أسمائه الحسنى: السَّتِير، على وزن فعيل كالسميع، أو يقال: سِتِّير، على صيغة المبالغة، ومعناه: أنه يحبُّ السَّتر والصّون لعباده، كما أنه يحب من عباده السَّتر على أنفسهم والابتعاد عما يشينهم.
وقد ورد ذِكْرُ هذا الاسم في السنة النبوية في أكثر من موطن، ففي حديث يعلى بن أمية t أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ رأى رجلًا يغتسلُ بالبَرازِ -أي: في العراء- بلا إزار، فصَعِدَ المنبرَ، فحمدَ اللهَ وأثنى عليهِ، ثمَّ قالَ: "إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حييٌّ ستير، يحبُ الحياءَ والسَّترَ، فإذا اغتسلَ أحدُكمْ فليستترْ"([1]).
معاشر المؤمنين: إن المتأمل في اسم الله السَّتِير يجد عظيم سَتر الله على عباده، فمن صور ذلك: أنه سبحانه يكره من عبده إذا اقترف ذنبًا أن يُذيعَه وينشرَه، فكما أن الله ستَرَه وقت مقارفته له فلا ينبغي له أن يهتِكَ ستر الله عليه بالإعلان والمجاهرة، قال ﷺ: "كلُّ أمَّتي مُعافى إلَّا المجاهِرينَ، وإنَّ منَ الإجهار -وأرعوا سمعكم أيها الإخوة- أن يعمَلَ العبد باللَّيلِ عملًا، ثُمَّ يصبِحُ قد سترَه ربه، فيقولَ: يا فلانُ، قد عمِلتُ البارحةَ كذا وَكذا، وقد باتَ يسترُه ربُّهُ، فيبيت يستره ربه، ويصبِحُ يَكشِفُ سترَ اللَّهِ عنهُ"([2])، اللهم انا نسألك السلامة.
فكم هو عظيمٌ ذلك السَّتر، وكم هو جميل ذلك اللباس الذي يُلبِسه ربنا عز وجل، ويأبى بعضُ الخَلْق إلا أن ينزع ذلك الرداء، فيُسْقِطَ عنه الحياء.
أيها الإخوة: ليس فينا معصوم، لكن شتان بين عبدٍ يقترف الخطيئة فيختفي عن الناس ويخفيها تعظيمًا لربه، ثم إذا ما وقع احترقت نفسه فعاد إلى ربه تائبا نادما، وبين المجاهر الذي لا يبالي، فإن من استتر بمعصيته أحرى بصدق توبةٍ يعود بها عما قريب.
ولا يعارض ما سبق حديثَ ثوبان t قال: قال رسول الله ﷺ: "لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا، فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا" قال ثوبان t: يا رسول الله، صفهم لنا جلهم لنا، ألا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: "أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها"([3]).
فهذا الحديث يُحمل على مَن يكون هذا حاله دائما، بمعنى أنه لا يبالي بالوقوع في المحرمات متى خلا بها، ولا يقيم وزنا لرقابة الله واطلاعه عليه، وأما ارتكاب المعاصي في الخلوات أحيانا فلا يكاد يسلم منه أحد إلاّ من عصمه الله، نسأل الله أن يعاملنا بفضله.
ألا وإن من السَّتر الذي يستوحيه العبد من اسم الله الستير هو أن يعيشَ حالةً من حسن ظنه بربه الذي ستره في الدنيا أن يظلّله بسَتره الأعظم في الآخرة.
جاء عن صفوان المازني قال: بينما أنا أمشي مع ابن عمر 5 آخذٌ بيده إذ عرض رجل، فقال: كيف سمعتَ رسول الله ﷺ في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إنّ الله يدني المؤمنَ فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي ربّ، حتّى إذا قرّره بذنوبه ورأى في نفسه أنّه هلك قال: سترتها عليك في الدّنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، -ما أحلم الله وما أعظم ستره على عباده جل وعلا-، قال: وأمّا الكافر والمنافقون فيقول الأشهاد: ﴿هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18]"([4]).
فاستروا أنفسكم، واستروا ذنوبَكم وعيوبَكم؛ لتنالوا سترًا في أحوج لحظة، وأحرج ساعة، وأصعب موقف.
([1]) أخرجه أبو داود (4012)، والنسائي (406).
([2]) أخرجه البخاري (6069)، ومسلم (2990).
([3]) أخرجه ابن ماجه (4245).
([4]) أخرجه البخاري (2441)، ومسلم (2768).
الخطبة الثانية
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
أيها المؤمنون: وستر الله تعالى له أسباب للفوز به والحصول عليه، ومنها:
الإخلاص واجتناب الرياء، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ"([1])، فيفضحه ويكشف ستره.
ومن الأسباب: الستْر على المسلمين، فعن أبي هريرة ﷺ عن النبي ﷺ قال: "ومَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ"([2]).
قال ابن حجر: "معنى قوله: "ستر مسلما" أي رآه على قبيحٍ فلم يُظهرْه للنّاس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه"([3]).
وقال ابن القيم: "وهو سبحانه وتعالى رحيمٌ يحب الرحماء، وإنما يرحم من عباده الرُّحماء، وهو سِتِّيرٌ يحب من يسترَ على عباده، وعفوٌّ يحب من يعفو عنهم، وغفورٌ يحب من يغفر لهم، ولطيفٌ يحب اللطيف من عباده، ويبغض الفَظَّ الغليظ القاسي"([4]).
ومن أسباب نيل سَتر الله: كظمُ الغيظ والغضب، جاء في الحديث: "ومن كف غضبه ستر الله عورته"([5]).
ومن الأسباب: دعاءُ الكريم الوهاب، قال ابن عمر 5: لم يكن رسول الله ﷺ يدَعُ هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح، ومنها: "اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي"([6])، فاللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا.
عباد الله: وإن اسم الله السَّتير يتضمن معانيَ سامية، وآثارًا إيمانية عالية، فمن تلك الآثار:
الحياءُ من الله عز وجل الذي يرى عبده وهو يعصيه فيستُره ويدعوه للتوبة، فحري بالعبد أن يستحيَ من ربه حق الحياء، فهو الذي يراه في جميع أحواله، ويحصي عليه جميع أعماله، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: 14].
ومن آثار اسم الله الستير: محبة الله سبحانه الحليمِ على عباده، فهو الذي يسترُهم، ولا يستعجل عقوبتهم مع قدرته عليهم وغناه عنهم.
ومن الآثار: التخلقُ بصفة الستر على النفس وعلى الخلق، فإن الله كما سبق يحب الستر.
وقد نادى رسولُ اللَّهِ ﷺ من على المنبر بصَوتٍ رفيعٍ، فقالَ: "يا مَعشرَ مَن أسلمَ بلِسانِهِ ولم يُفْضِ الإيمانُ إلى قَلبِهِ، لاَ تؤذوا المسلِمينَ ولاَ تعيِّروهم، ولاَ تتَّبعوا عَوراتِهِم، فإنَّهُ مَن تتبَّعُ عورةَ أخيهِ المسلمِ تَتبَّعَ اللَّهُ عورتَهُ، ومَن تتبَّع اللَّهُ عورتَهُ يفضَحْهُ ولَو في جَوفِ رَحلِهِ"([7]).
أيها المؤمنون: اعلموا رحمكم الله أن قضية السَّتر التي نستوحيها من اسم الله السَّتِير تستوجب علينا أن نعيش حالةً من العفو والكرامة والحشمة والصون في أنفسنا وفي أهلينا ومن تحت أيدينا، وسَترٌ آخر نجلل به غطاء الحشمة وإخفاءَ عيوب الناس، فلا نُجرّح ولا نقدح ولا نفضح، ولا يسرنا أن يُصاب الناس بِتُهَم في أعراضهم، أو يُقدحون ويثلبون بما يتعلق بذواتهم وأشخاصهم، وتذكر دائمًا "من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة"([8]).
ولقد أصبح بنا من نعم الله ما لا نُحْصيه، فما ندري أيها نشكر: أجميلُ ما أظهر، أم قبيح ما سَتر.
فاشكروا الله على سَتره عليكم، وابذلوا أسباب دوام ذلك تسعدوا في الدنيا، وتفوزوا في الآخرة.
نسأل الله أن يعاملنا بسَتره وعفوه وكرمه، وأن يحييَنا وإياكم حياةً طيبة في أحسن حال، ويبعثَنا في أكرم مآل.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة([9]).
([1]) أخرجه البخاري (6499)، ومسلم (2987).
([2]) أخرجه البخاري (2422)، ومسلم (2580).
([3]) فتح الباري (5/97).
([4]) الوابل الصيب من الكلم الطيب (1/35).
([5]) أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» (6026).
([6]) أخرجه أبو داود (5074)، وابن ماجه (3871).
([7]) أخرجه الترمذي (2032).
([8]) أخرجه مسلم (2699).
([9]) الخطبة للشيخ عبدالعزيز بن محمد العبيدالله.