المقيت

وفي هذا الاسم خطبة واحدة بعنوان: اسم الله المقيت

الخطبة الأولى

إنَّ الحمدَ للهِ نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا، أمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى، واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى، وَاعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثُاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

عِبَادَ اللَّهِ: لَا بُدَّ لِلْمُسْلِمِ مِنْ مَعْرِفَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعْبُدَهُ حَقَّ الْيَقِينِ، وَحَقَّ الْعِبَادَةِ.

وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى اسْمُهُ الْمُقِيتُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَرَّةً وَاحِدَةٍ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا﴾ [النساء: 85].

وَمِنْ مَعَانِي هَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ: أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءِ حَفِيظٌ وَشَهِيدٌ، وهو الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِالتَّدْبِيرِ.

وَمِنْ مَعَانِي هَذَا الِاسْمِ: الْقَدِيرُ.

ومِنْ مَعَانِي الِاسْمِ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُعْطِي الْقُوتَ وَالْأَرْزَاقَ، فَهُوَ الَّذِي أَوْصَلَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ مَا بِهِ يَقْتَاتُ، وَأَوْصَلَ إِلَى الـمَخْلُوقَاتِ أَرْزَاقَهَا، وَصَرَّفَهَا كَيْفَ يَشَاءُ بِحِكْمَتِهِ، وَلُطْفِهِ، وَفَضْلِهِ، فَلَوْلَا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَمَا اسْتَطَاعَتِ النَّمْلَةُ أَنْ تَعِيشَ وَسَطَ هذِهِ الأَمْوَاج الْهَائِلَةِ مِنَ الْإِنْسِ، وَالْحَيوَانِ، وَالْحَشَرَاتِ، وَالْدَوَابِ، وَمَعْ ذَلِكَ يَصِلُ إِليْهَا قُوْتها وَمَا يَكْفِي حَاجَتهَا.

فَسُبْحَانَ مَنْ أَتْقَنَ كُلُّ شَيءٍ خَلقَهُ ثُمَّ هَدَى، حَيْثُ هَدَاهُمْ إِلَى مَا بِهِ يَقْتَاتُونَ، وأَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا عَلَيْهِ يَعِيْشُوْن.

وَكذَلِكَ نَتَأَمَلُ في حَيَاةِ الْبِحَارِ كَيْفَ يَقْتَاتُ مَنْ يَسْكُنُ فِيْ أَعْمَاقِهَا؟ وَكَيْفَ اسْتَطَاعَتْ صِغَارُ الْأَسْمَاكِ أَنْ تَقْتَاتَ حَتَّى نمَتْ وَكَبُرَتْ وَسَطَ أَسْمَاكٍ مُسْتَعِرَةٍ تَتسَلَطُ عَلَى الصِغَارِ؟ ولَوْ كَانَ بِمَقْدُوْرِهَا لَمْ تُبْقِ وَلَم تَذَرْ سَمكَةً صَغيْرَةً حَتَى تَكْبُر.

فَاللَّهُ هو الذي تَكَفَّلَ بِالْأَرْزَاقِ، وَسَخَّرَ الْآبَاءَ لِلْأَوْلَاَدِ للإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ، قَالَ ﷺ في الحديث: "كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ"^([1]).

وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُقِيتُ، يُقَدِّرُ حَاجَةَ الْخَلَائِقِ بِعِلْمِهِ، ثُمَّ يَسُوقُهَا لَهُمْ بِقُدْرَتِهِ، يُقِيتُهُمْ بِهَا، وَيَحْفَظُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا﴾ [فصلت: 10]، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاهُ-: "﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا﴾ [فصلت: 10] وَهُوَ مَا يَحْتَاجُ أَهْلُهَا إلَيْهِ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تُزْرَعُ وَتُغْرَسُ"^([2]).

فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُعْطِي كُلَّ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ قُوتَهُ عَلَى مَرِّ الْأَوْقَاتِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَهُوَ يَمُدُّ خلقه فِي كُلِّ وَقْتٍ بِمَا جَعَلَهُ قوَامًا لَهَم، إِلَى الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ الَّذِي يَحْبِسُهُ عَنْهُمْ، إِذَا كَتَبَ عليهم الْهَلَاكُ أَوِ الْوَفَاةُ.

وَالْمُقِيتُ يَخْتَلِفُ عَنِ الرَّزَّاقِ بِأَنَّهُ أَخَصُّ، فَإِنَّ الرَّزَّاقَ يَشْمُلُ كُلَّ أَنْوَاعِ الرِّزْقِ، وَأَمَّا الْمُقِيتُ فَهُوَ يَخْتَصُّ بِالْقُوتِ، وَأَسْمَاءُ اللَّهِ بَعْضُهَا يُعطِّي مَعْنًى أَشْمَلَ مِنَ بَعْضِ.

فَقَدْ قَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ عِنْدَ خَلْقِهِ لِلْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا﴾ [فصلت: 10]، فَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَ أَهْلِهَا، وَمَا يَصْلِحُ لِمَعَايِشِهِمْ مِنَ التِّجَارَاتِ وَالْأَشْجَارِ وَالْمَنَافِعِ، فِي كُلِّ بَلَدَةٍ قُوْتٌ مُخْتَلِفٌ عنْ أقْوَاتِ البِلاَدِ الأُخْرَى وذلك ليُلَائِم احْتِيَاج أَهْلِهَا، وليُسَخّرَ الناسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، قَالَ تَعَالَى: ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ [الزخرف: 32].

فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْقَائِمُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهُوَ الَّذِي أَمَدَّ الْعَبْدَ بِمَا يُقِيمُ صُلْبَهُ لمزاوَلَةَ أَعْمَالِهِ، فهذه الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ هِيَ الْأَقْوَاتُ الَّتِي يَقْتَاتُ مِنْهَا الْإِنْسَانُ، وَمَهْمَا كَانَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ مِنْ أَمْوَالٍ وَعَقَارٍ فَبِدُونِ الْقُوتِ لَا يَعِيشُ، وَالَّذِي رَزَقَ الْعِبَادَ هَذِهِ الْأَقْوَاتَ خَلَقَ لَهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ مَا يُعِينُهُمْ عَلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا، وَهُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ مَا يُنَاسِبُ الْأَجْسَادَ، فَخَلَقَ سبحانه الْأَقْوَاتَ الْمُنَاسِبَةَ لِأَجْسَادِ خَلْقِهِ وَزَمَنِهِمْ وَمَكَانِهِمْ، وَخَلَقَ فِي كُلِّ زَمَانٍ الْأَقْوَاتَ الَّتِي تُناسُبِ أَعْدَادَهُمْ.

فَانْظُرْ إِلَى كَثْرَةِ الْخَلْقِ وَكَثْرَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَكُلٌّ لَهُ قُوتُهُ، فَمَنِ الَّذِي قَدَّرَ لَهُمْ أَقْوَاتَهُمْ وتكفل بها غَيْرَ الْمُقِيتِ جلَّ فِيْ عُلَاه!

وَانْظُرْ إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، سُكَّانُهَا يَتَجَاوَزُونَ الْمِلْيَارَ، ويَحْتَاجُونَ إِلَى مِئَاتِ الْمَلَاَيِينِ مِنَ الْأَطْنَانِ مِنْ كَافَةِ أَنْوَاعِ الأَرْزَاقِ يَوْمِيًّا، سَاقهَا المقيت إليهم.

وَانْظُرْ إِلَيْهِمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، الْمَلَاَيِينُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ ضَيِّقٍ مُزْدَحِمٍ، وَمَعَ ذَلِكَ سَخَّرَ المقيت سبحانه مَلَايِينَ الْأَطْنَانِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ فِي تِلْكَ الْأيَّامِ الْمَعْدُودَةِ وَيَسَّرَهَا لَهُمْ.

وَلَقَدْ طَمْأَنَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْزَاقَ فِي عِلْمِهِ وَحِفْظِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ لَا يَمْنَعَهَا عَـنْهُمْ أَحَدٌ، بَلْ وَزَادَ فِي طَمْأَنَةِ عِبَادِهِ أَنْ ذَكَرَ لَهُمْ هَذِهِ الْأَرْزَاقَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، قَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: 40]، وَخَلَقَ لَهُمُ الْوَسَائِلَ الَّتِي تُوصلُهُمْ إِلَى أَقْوَاتِهِمْ، فَاللَّهُ هُوَ الْمُقِيتُ الَّذِي يَحْفَظُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْجُوعِ وَالْهُلَّاكِ.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُقِيتُ الَّذِي خَلَقَ الرِّزْقَ، وَتَكَفَّلَ بِهِ، وهَيَّأَ اللَّهُ لِكُلِّ نَفْسٍ قُوتَهَا، فَمِنْ سُوءِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ الْمُقِيتِ جَلَّ فِي عُلَاه أَنْ يَقْتَاتَ الْإِنْسَانُ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوتِ، سواء ما حَرَّمَهُ اللَّهُ لِذَاتِهِ كَالـخَـنَازِيرِ وَالْكِلْابِ وَالْحَمِيرِ، أو ما حَرَّمَهُ اللَّهُ لِسَبَبٍ كَالْقُوت الْمَسْرُوْق، فَعلى المؤمن بأن الله هو المقيت ألَا يَأْكَلُ إِلَّا من الْحَلَالَ الطَّيِّبَ.

وَمِنْ هُنَا يَنْبَغِي عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَنسب فَضْلَ هَذِهِ الْأَقْوَاتِ إِلَى الْمُقِيتِ الْمُتَفَضِّلِ الَّذِي أَوْجَدَهَا وَهَيَّأَهَا لِخَلْقِهِ، وَلَا يسنِدُ قُوتًا لِخَلْقِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيهِ نِسْبَةُ الصُّنْعِ لِغَيْرِ الصَّانِعِ، وَسُوءُ أَدَبٍ مَعَ الْخَالِقِ، كما قال تعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: 82] أَيْ: تَنْسِبُونَـهَا لغَيْرِ الله.