الخطبة الثانية بعنوان: الفتاح
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71]، أما بعدُ:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون عباد الله: فإن من أجل الأعمال، وأعظم المطالب، وأشرف العلوم أن يتعرف العبد على ربه سبحانه وتعالى، وأن يتفكر في عظيم عطائه، وفي جليل نعمه وكرمه سبحانه وتعالى على عباده؛ ليمتلئ القلب محبة وتعظيما وإجلالا وتقديرا لله سبحانه وتعالى، وهذا المقصد هو أهم مقصد خُلق الناس لأجله، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
قال مجاهد: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي: إلا ليعرفون([1]).
فمعرفة الله سبحانه وتعالى هي الطريق إلى عبادته، فمن عرف الله عبده، ومن لم يعرفه كفر به عز وجل.
ولا صلاح للعبد، ولا استقامة لحاله، ولا لقلبه إلا بأن يتعرف على الله سبحانه وتعالى.
وإن من أعظم ما يعرّف العباد بربهم سبحانه أسماءَه الحسنى التي هي أكمل وأجل وأفضل الأسماء على الإطلاق، والتي من أحصى منها تسعة وتسعين اسما دخل الجنة بإذن الله، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم([2]).
ووقفتنا -أيها الأحباب- في هذه الخطبة مع اسم من أسماء الله تبارك وتعالى، وهو اسم الله (الفتاح).
هذا الاسم -أيها الأحباب- ورد مرة واحدة في القرآن في سورة سبأ، يقول الله عز وجل: ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾ [سبأ: 26].
الفتاح كثير الفتح، والفتح هو حل ما أغلق، وإيجاد منفذ وممر فيما هو مصمد مسدود، فالله سبحانه وتعالى هو الفتاح الذي يحل كل من غلق أمام الناس، ويوجد لهم المنافذ إذا سدت أمامهم السبل، وضاقت بهم الأمور.
وفتوح الله عز وجل على عباده كثيرة متعددة جدا، فالله سبحانه وتعالى هو الفتاح الذي يفتح الرحمة لعباده، ويفتح لهم الخير من عنده، وإذا فتح الله سبحانه وتعالى باب رحمة منه لم يستطع أحد أن يغلق هذا الباب، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾ [فاطر: 2].
لو اجتمع أهل السماوات والأرض كلهم ومثلهم وأضعافهم، وحَشَروا وجَـمَعوا الأولين والآخرين، وأتوا بكل ما معهم من قوة وعتاد لأجل أن يمنعوا رحمة واحدة أذن الله بنزولها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
وانظر إلى مثال يسير: هذا المطر الذي ينزل علينا من السماء إذا أذن الله سبحانه وتعالى بنزوله، فهل هناك قوة في الكون تستطيع أن تمنع نزول هذا المطر، وهو رحمة من رحمات الله تبارك وتعالى؟
ومن العبارات الشائعة عند كثير من الناس، والتي هي ناشئة عن جهل بالله عز وجل قول بعضهم: فلان لا يرحم ولا يترك رحمة الله تنزل على عباده!
سبحان الله، هل يستطيع أحد أن يمنع رحمة الله عز وجل أن تنزل على عباده؟
لا والله أبداً، وإنما تنزل بإذن الله، وتُمسك وتُمنع بأمر الله سبحانه وتعالى.
الفتاح هو الذي فتح أبواب المغفرة والتوبة لعباده، فتح لهم باب الرجوع والأوبة إليه مهما عظمت ذنوبهم، ومهما كثرت سيئاتهم، وجعل هذا الباب مفتوحا لا يغلقه إلا هو سبحانه في ميعاده، فعن صفوان بن عسال t عن النبي ﷺ قال: "إِنَّ مِنْ قِـبَلِ الْمَغْرِبِ لبَابًا مَسِيرَةُ عَرْضِهِ سَبْعُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ عاما، فَتَحَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلتَّوْبَةِ يَوْمَ خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ، وَلَا يُغْلِقُهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ"([3]).
باب مفتوح لا يستطيع أحد من البشر أن يغلقه على بشر آخر مهما كثرت الذنوب والسيئات، هذا رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فذهب يبحث عن التوبة، وقد وقع في قلبه الخوف من الله، فذهب يسأل، فوقع على إنسان عابد جاهل لا يعرف الله عز وجل، فسأله فقال له: قتلتُ تسعة وتسعين نفسا، فهل لي من توبة؟ قال: لا، أغلق باب التوبة دونه، وليس له أن يغلقه دون أحد من العباد، فقتله، فكمل به المائة، ثم أدركته رحمة الله عز وجل، فذهب يسأل يبحث عن عالم ليفتيه في هذا الأمر، فوجد عالما، فسأله: قتلتُ مائة نفس فهل لي من توبة؟ فقال له هذا العالم العارف بالله عز وجل: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ هذا باب فتحه الله سبحانه، من الذي يستطيع أن يغلقه؟ ومن الذي بيده أن يوصده؟ ومن الذي يجرُأ على أن يمنع عباد الله من الدخول فيه؟ فقال: وما الذي يحول بينك وبين التوبة؟ فتاب هذا القاتل، وحسنت توبته، ومات على خاتمة طيبة، وقبضته ملائكة الرحمة([4])، قال الله عز وجل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].
الفتاح سبحانه الذي فتح أبواب الرزق للعباد، فلم يخلق خلقا، ولم يوجد أحدا إلا وأوجد له رزقه، وتكفل به من عنده، فقال سبحانه: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ﴾ إلا على الله وحده لا شريك له، ﴿إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: 6].
وتأمل في هذا تجد عجبا عجابا، وأمرا يفوق الوصف، ويتجاوز الخيال، كم هي الكائنات التي تعيش على الأرض اليوم؟ وكم هي المخلوقات التي تحتاج أن ترزق في كل يوم وليلة؟ البشر اليوم مع ما عندهم من العلوم والآلات والتقنيات ما استطاعوا إلا أن يكتشفوا قرابة اثنين مليون جنس من أجناس المخلوقات، وتحت كل جنس مليارات المخلوقات، وهذا الذي اكتشفه الناس اليوم إنما يمثل فقط 10% من الكائنات التي تعيش على الأرض، وبقي 90% من هذه الكائنات لم يعرفها الناس، فتخيل كم ستكون هذه الأعداد؟! شيء مهول مذهل، وكل هذه المخلوقات رزقها على الله سبحانه وتعالى، يرزقها بما يناسبها ويتلاءم معها، ويأتيها رزقها يساق إليها، لا تتعب في البحث عنه، ولا تعاني في ذلك كثيرا، قد يسر الله عز وجل لها سبلا، وعرفها بطرقه، فلا تكاد تجد مخلوقا يموت جائعا إلا النزر اليسير القليل النادر.
يتكلم الناس: أعداد البشر تزداد، والناس يكثرون على الأرض، فمن أين يأكلون؟ وكيف يطعمون؟ ومن أين يرزقون؟ فيفتح الفتاح سبحانه وتعالى لهم أبواب من الرزق من حيث لا يحتسبون، كانت أعدادهم قليلة فكانت أعمالهم قليلة، فلما كثرت أعدادهم فتح الله لهم أبواب للعمل، وفتح لهم أبوابا للرزق والاكتساب، حتى سدت حاجة الناس، بل يوجد من الأرزاق ما يزيد عن حاجة الناس، وما يحتمل زيادة أضعاف أضعاف ما هو موجود اليوم على ظهره هذه الأرض.
من الذي يستطيع أن يمنع حبة فتحها الله عز وجل لمخلوق من المخلوقات؟
واللهِ واللهِ أَيْمَانٌ مُكَرَّرَةٌ *** ثَلاثَةٌ عَنْ يَمِيْنٍ بَعْدَ ثَانِيْهَا
لَوْ أَنْ في صَخْرَةٍ صَمَّا مُلَمْلَمَةٍ ***في البَحْر رَاسِيَةٍ مِلْسٍ نَوَاحِيْهَا
رِزْقًا لِعَبْدٍ بَرَاهُ اللهُ لانْفَلَقَتْ *** حَتَّى تُؤدِيْ إِلَيْهِ كُلَّ مَا فِيْهَا
أَوْ كَانَ فَوْقَ طِباقِ السَّبْعِ مَسْلَكُهَا *** لَسَهَّلَ اللهُ في الـمَرْقَى مَرَاقِيْهَا
حَتَّى يَنَال الذِي في اللَّوحِ خُطَّ لَهُ *** فَإِنْ أَتَتْهُ وإِلا سَوْفَ يَأْتِيْهَا
الفتاح سبحانه وتعالى الذي يفتح أبواب الفرج بعد الشدة، فإذا أغلقت الأبواب، وأطبق الخلق جميعا على أنه لا فرج ولا نجاة فتح الله سبحانه وتعالى لهم أبوابا من الرحمة.
إذا ذهبت إلى الأطباء، فأجمعوا جميعا على أنه لا علاج لمرضك، ولا دواء، وسدوا وأغلقوا أمامك جميع أبواب الشفاء، فاعلم أن الله سبحانه وتعالى فتاحٌ، قد يفتح بابا من الشفاء يعجزهم جميعا ويذهلهم، قال الله سبحانه تعالى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: 80].
تنزل بك نازلة، وتحل بك مصيبة، فتطرق أبواب الناس تبحث عن مساعدة، أو ربما تبحث عن قرض أو سلف، لا تريد صدقة ولا عطية، إنما مالا تأخذه لترده بعد ذلك، فتغلق أمامك أبواب الناس، فيعتذر الأول والثاني والثالث والرابع، حتى إذا أوصدت أبواب جميع الخلق فتح الله لك بابا من حيث لا تحتسب، ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: 62].
تسأل الواحد عن أحوال البلاد والأمة، وتسأله: هل هناك فرج قريب؟ هل هناك مؤشرات خير قادمة؟ فيجيبك بكل يئس وإحباط، ويغلق عليك جميع الأبواب، ويقول: لو صلحت أحوالنا، لربما سيكون هذا بعد خمسين أو ستين أو مائة عام على أقل تقدير! ولا يعلم المسكين أن لنا ربا سبحانه وتعالى قد سمى نفسه بالفتاح، وأنه لو أراد شيئا لفتح لنا أبوابا من حيث لا يحتسب الناس أبداً.
هذا موسى -عليه السلام- خرج بقومه مهاجرين هاربين بدينهم من أرضهم، فأدركه فرعون بجيوشه وجنوده، حتى إذا وصلوا إلى ساحل البحر وقفوا أمامه عاجزين، فرعون من ورائهم، والبحر من أمامهم، فقالوا عند ذلك: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء: 61]، أي: سيدركنا فرعون، ونحن لا محالة هالكون، فقال موسى -عليه السلام- وهو العالم العارف بربه سبحانه، قال: ﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62]، ففتح الله عز وجل فتحا لم يخطر لهم على بال، وفلق لهم البحر، وفتح لهم في وسطه طريقًا يبسا، فساروا فيه آمنين، ونجاهم الله سبحانه وتعالى من فرعون وجنوده وجيوشه.
هل يقدر على هذا أحد غير الفتاح سبحانه وتعالى؟ وهل يستطيع هذا إلا الرب تبارك وجل في علاه؟
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
([1]) انظر: تفسير الثعلبي (9/120)، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر (2/810).
([2]) أخرجه البخاري (2736)، ومسلم (2677).
([3]) أخرجه الترمذي (3535)، وأحمد في «المسند» (18095).
([4]) الحديث أخرجه البخاري (3470)، ومسلم (2766).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما مزيدا، وبعد:
أيها الأحباب الكرام: الفتاح الذي يفتح بين المؤمنين وبين أعدائهم وخصومهم، قال الله عز وجل: ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾ [سبأ: 26]، فيفتح للمؤمنين في الدنيا بنصرهم على أعدائهم.
في يوم بدر وقف أبو جهل، وقال مناديا لله سبحانه وتعالى: اللهم أَقْطَعُنا للرحم، وآتانا بما لا نَعْرِف، فأَحِنْه الغداة، أي: يدعو على النبي ﷺ أن يهزم في يوم بدر؛ لأنه على حد زعمه قطع الرحم، وأتى بما لم يُعرف، فطلب من الله سبحانه وتعالى أن يفتح بينهم وبين محمد ﷺ، فقال الله عز وجل: ﴿إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ﴾ [الأنفال: 19]، فكان الفتح من الله عز وجل بأن نصر نبيه ﷺ، وصحابته الكرام، وعباده الصالحين، وأظهرهم على عدوهم، وهزم أبا جهل ومن معه من المشركين([1]).
يفتح الله سبحانه وتعالى قلوب العباد، وبلادهم للمؤمنين، ولهذا تُسمى انتصارات المسلمين بالفتوحات؛ لأنها فتح من الله عز وجل: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾ [الفتح: 1].
ويفتح الله كذلك بين أهل الحق وأهل الباطل يوم القيامة في يوم الفتح الأكبر، فيظهر المحق ويظهر المبطل، فيُؤخذ المحق إلى النعيم، ويُلقى المبطل بعد ذلك في الجحيم، وهذا هو الفتح الأكبر الذي يفتحه الله عز وجل لعباده: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ﴾ [السجدة: 28-29].
الفتاح سبحانه الذي يفتح القلوب للهدى والحق والإيمان، ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ [الأنعام: 125]، وليس هذا لأحد إلا لله سبحانه وتعالى، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ومفاتيحها بيده سبحانه، ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: 56].
فإذا استعصى عليك قلبك، أو استعصى عليك قلب أحد من العباد، فالجأ إلى الفتاح سبحانه وتعالى؛ ليفتح لك القلب المغلق.
إذا عصاك ولدك وعقك، وخالفك وأتعبك، وناصحته ولم ينتصح، فالجأ إلى الفتاح سبحانه فادعه أن يفتح لك قلب ولدك، فإن مفتاحه بيده سبحانه.
الفتاح الذي فتح للخلق أبواب العلم والمعرفة والفهم، ولولا أن الله عز وجل فتحها لهم لما فتحت لهم أبدا إلى يوم الدين.
الله عز وجل هو الذي علمهم، وعلم آدم الأسماء كلها، وإنما العلم من عند الله سبحانه وتعالى، وليس العلم الذي فتح للناس اليوم إلا نزر يسير من الله عز وجل، ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: 85]، ويبقى كثير من العلم بيد الله عز وجل، مفاتيحه مخبوءة عن العباد، ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59].
فمن استصعب عليه شيء من العلم في فهمه أو حفظه، فليلجأ إلى الله سبحانه وتعالى، وليقل: يا معلم داود علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، فيفتح الله عز وجل له عند ذلك فتوحا من العلم والفهم.
الفتاح سبحانه الذي فتح للناس أبواب العمل الصالح، وأبواب اكتساب الأجور والحسنات من صيام، وصلاة، وذكر، وقراءة للقرآن، وصلة للأرحام، وبر للوالدين، وإحسان للجوار، وصدق في الحديث، والأمانة، وحسن وفاء عهد، وغير ذلك من الأعمال الصالحة الكثيرة التي لا يحصيها إلا الله سبحانه وتعالى.
بل فتح الله عز وجل للعباد بابا عظيما واسعا لا حد له، وهو باب النية، فمن عمل أي عمل بنية صالحة كتب الله سبحانه وتعالى له في ذلك أجرا وثوابا، قال ﷺ لسعد بن أبي وقاص t: "إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ"([2])، أي: حتى الطعام الذي تطعمه لزوجتك يكتبه الله سبحانه وتعالى أجراً وثوابا إذا نويت به نية صالحة، ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7]، فمهما كان العمل قليلا، ومهما كان العمل يسيرا، فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا.
هذا نزر يسير قليل من فتوح الله سبحانه وتعالى التي يفتحها لعباده، فإذا استصعب عليك أمر، وإذا اشتدت عليك الأمور وضاقت، وإذا ادلهمت الخطوب، وإذا أغلق الخلق دونك أبوابهم، فاعلم أن لك ربا فتاحا يفتح كل مغلق، ويسهل كل صعب، وييسر كل عسير بإذنه سبحانه، فالجأ إليه، وقل: يا فتاح افتح لي.
وتذكر دائما أن عبدا واحدا صالحا دعا ربه، فقال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا﴾ [الشعراء: 117-118]، ففتح الله بينه وبينهم فتحا لا يخطر على بال، قال الله عز وجل: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: 11-12]، فقد أجاب الله عز وجل نبيه نوحا -عليه السلام- حين دعاه، وسأله الفتح من عنده.
والذي فتح لنوح -عليه السلام- أبواب السماء، وفجر له عيون الماء، قادر على أن يفتح لك أي شيء أغلق في حياتك مهما كان.
اللهم افتح لنا أبواب العلم والفهم.
اللهم افتح لنا أبواب الرزق والخير([3]).
([1]) انظر: تفسير الطبري (11/93، 94).
([2]) أخرجه البخاري (56)، ومسلم (1628).
([3]) الخطبة للشيخ علي باوزير.