اسم المستعان

اسم كاتب الخطبة: الخطبة للشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز العقل

- المستعان

وفي هذا الاسم خطبة واحدة بعنوان: اسم الله المستعان أسرار وتجليات

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي علا في سمائه، وعدل في حكمه، يعلم السر وأخفى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، أحمده على توالي مننه، وأعوذ به من سخطه ونقمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بوحيٍ منظوم، وأمرٍ معلوم، فنطق بالصدق، ودعا إلى الحق، وبلَّغ دين الله حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70-71].

أيها الكرام: تضافرت النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ في بيان عظمة الله من خلال أسمائه الحسنى وصفاته العلا؛ ليعرف العباد خالقهم سبحانه وبحمده، ولتثمر هذه المعرفة إفراده تعالى بالعبادة خشيةً وعملاً واعتقادًا وتعظيمًا وتذللاً. 

ومن عَرَفَ اللهَ تعالى، وتفقه في أسمائهِ وصِفاتِهِ ترسَّخ في قلبه اليقين، وحَسُنَ ظَنَّهُ بالله تعالى، وارتجى من ربه حُسنَ العوائدِ وجميلها.

يقينٌ ثابتٌ لا تَشُوبُهُ رِيبَةٌ، ولا تزعزعه مصيبة، مع فألٍ وأملٍ بأنَّ الفَرَجَ آتٍ، وبأنَّهُ لن يَغلِبَ عُسرٌ يُسرَينِ، وبأنَّهُ مَهما طالَ اللَّيلُ فلابُدَّ من بُزوغِ الفَجرِ، وأن سنة الله ماضيةٌ قاضيةٌ بأنَّ كُلَّ مِحنَةٍ تَحمِلُ في طَيَّاتِها مِنَحًا ورَحَماتٍ لا يَعلَمُها إلا اللهُ تعالى.

ولهذا يستلذ المؤمن العيش مع أسمائه وصفاته، يستلهم منها دروسًا لحياته، ويستنطق من معانيها عبرًا تضيء له طريقه.

ومن أجلِّ تلك الأسماء الربانية التي تستحق التأمل والمدارسة اسم الله (المستعان)، فهو مما يُضفي على حياة المؤمن جمالًا وبهاءً وزكاءً، فإن الاستعانةَ بالله تعالى، والعكوفَ على بابه الكريم من أرفع الأعمال، وأنجح الآمال، وأبلغ المقاصد لتحصيل الاطمئنان القلبي، إذ ليس أشرح لقلب العبد، ولا أسعد لنفسه من التعلق بالله جل جلاله، والاستعانة به، والاعتماد عليه في جميع الأمور والأحوال، فذلك إكسير السعادة في الدنيا والآخرة.

قل لمن يشكو زمانًا *** حـــــــاد عـــــمَّا يـــــــــرتجيهِ

لا تـَــــضِيقَنَّ إذا جـــــا *** ءَ بمــــا لا تـــــشتـــــهــــــــــيهِ

ومــــتى نابـــــــك دهـــــــرٌ *** حــــالتِ الأحوالُ فــــيهِ

فوِّضِ الأمـــــــرَ إلى اللهِ *** تجــــدْ مـــا تـــــبتــــغــــيـــــــــــــــــه

وقد ورد اسم الله (المستعان) في القرآن الكريم في موضعين:

الأول: في قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ[يوسف: 18].

والثاني في قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ[الأنبياء: 112].

وإن من أعظم الأدعية التي أمرنا الله بها إذا وقفنا بين يديه في كل ركعة في صلواتنا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5].

يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]"([1]).

والاستعانة بالله تتضمن ثلاثة أمور: كمال الذل لله، مع الثقة به، والاعتماد عليه.

ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "وقد أنزل الله سبحانه وتعالى مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في أربعة: وهي التوراة والإنجيل والقرآن والزبور، وجمع معانيها في القرآن، وجمع معانيه في المفصل، وجمع معانيه في الفاتحة، وجمع معانيها في: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]"([2]).

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ؛ أي: لا نعبد إلا أنت، فالعبادة خاصة بالله وحده، وهذا ينتظم العبادات جميعًا، ثم قال بعدها: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فذكر الاستعانة بعد العبادة لأنها فرعُ الإقرار بعبودية الله تعالى، فإن من أقرَّ بأن الله هو المعبود دفعه ذلك الإقرارُ لطلب العون منه وحده إذ هو المعبود الكامل في أوصافه، ولا يمكن أداء العبادة على وجهها الصحيح دون الاستعانة به سبحانه.

ولهذا قال النبي ﷺ لابن عباس 5: "إذا استعنت فاستعن الله"([3]).

وفي هذا الحديث لفتة بلاغية جميلة، حيث حَصَر الاستعانة بالله وحده دون غيره، والمعنى: إذا كنتَ متوجهًا للاستعانة فلا تستعن بأحد إلا بالله جل جلاله.

وخصت الاستعانة بالذكر دون بقية العبادات لأن الاستعانة بالله هي محور العبادات جميعًا، وعليها مدار العبودية، فإنها مشتملةٌ على سرٍّ عجيبٍ من أسرار التعبد لله، يحفز المؤمن على أن لا يستهدي إلا بربه، ولا يستعين إلا به في كل شؤون حياته، بل في كل طرفة عينٍ يتنفس من رَوْحِ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5].

وفي صحيح مسلم قال ﷺ: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ"([4])، يعني: لا تعتمد على الحرص فقط، ولكن مع الحرص استعن بالله في كل شيء؛ لأنه لا غنى لك عن الله.

ومهما بذلْت من الأسباب فإنّها لا تنفع إلاّ بإذن الله تعالى، فلذلك جمع في الحديث بين الأمرين: فعل السبب مع الاستعانة بالله.

ومن تجليات هذه الاسم المبارك (المستعان) أنه يُعمِّق في نفس المؤمن أن الله جل جلاله غَنيٌّ عَنِ الظَّهِيرِ والـمُعينِ والشَّرِيكِ وَالوَزِيرِ، بل كلُّ إعانةٍ وعونٍ فمنه وبه سُبْحَانَهُ، فينتج عن ذلك تجريد الاستعانة لله وحده كتجريد العبادة له وحده.

وحقيقة الاستعانة بالله طلب العون من الله تعالى، المتضمن لكمال الذل من العبد لربه سبحانه، وتفويض الأمر إليه وحده، واعتقاد كفايته.

وهذه العبادة من أعظم مقتضيات الإيمان، وأرسخ الأعمال المقربة للرحمن، فإن الأمور كلها لا تتم إلا بالاستعانة بالله، ولا عاصم للعبد سوى الاعتماد على الله تعالى في جميع أموره، وفي كل شأن من شؤونه.

ولعظم هذه العبادة وجلالتها أفردها الله من بين سائر العبادات ليتعبد المسلم بها في كل ركعةٍ يصليها: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]، ففي:
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ تبرؤٌ من الشرك، وفي: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ تبرؤٌ من الحول والقوة، والمعنى: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك.

وتقديم العبادة على الاستعانة من باب تقديم العام على الخاص، واهتمامًا بتقديم حق الله تعالى على حق عبده، وذَكَر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها؛ لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى، فإنه إن لم يعنه الله لم يحصل له ما يريد من فعل الأوامر واجتناب النواهي.

فالعبادة هي الغاية التي خلق الناس لأجلها، والاستعانة هي الوسيلة إليها، ولذلك علَّم النبيُّ ﷺ معاذًا t دعاءً يحافظ عليه بعد كل صلاة مكتوبة، يطلب فيه العون من ربه على أداء عبادته، قال ﷺ: "يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ مُعَاذٌ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ، فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ، لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"([5]).

والعبد عاجزٌ عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله تعالى، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، وهذا هو معنى: لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: لا تحول للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بالله، وهذه كلمةٌ عظيمةٌ، وكنز من كنوز الجنة([6]).

والعبد محتاجٌ إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات، وعند الموت، وما بعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يعينه على ذلك إلا الله تعالى، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه سبحانه.

وبالاستعانة بالله -أيها الموفق- تستغني بالخالق عن الخلق.

وكمال غنى العبد في تعلقه بربه، ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به فصار مخذولاً.

وبقدر ما يركن الشخص إلى غير الله تعالى بطلبه، أو قلبه، أو أمله فقد أعرض عن ربه إلى من لا يضره ولا ينفعه.

 

([1]) المستدرك على مجموع الفتاوى (1/144).

([2]) الصلاة وحكم تاركها (ص143).

([3]) أخرجه الترمذي (2516).

([4]) أخرجه مسلم (2664).

([5]) أخرجه أبو داود (1522)، والنسائي (1303)، وأحمد في «المسند» (22119).

([6]) جاء ذلك في حديث أخرجه البخاري (4205)، ومسلم (2704).

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يليق بجلال ربنا وعظمته وكماله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله ومن سار على نهجه ومنواله، أما بعد:

أيها الأحبة الكرام: إن من أنجعِ مغذيات اليقين، وأعظمِ مدارك الإيمان، وأفضلِ سبل التثبيت والثبات الاستعانةَ بالصبر والصلاة، قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[البقرة: 45]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة: 153].

فالصبر والصلاة هما الزاد الذي يمد المؤمن بالقوة التي تعينه على احتمال تكاليف العبادة، ومشقة المجاهدة، وعناء الحياة، وهما أعظم معين لدفع سيول الشهوات والأهواء، وصد عاديات الفتن والشبهات.

وقــــد حقق الأنبياء والرسل الاستعانة بالله في أمور دينهم ودنياهم عـــــلى أفضل صورة وأحسن مثال:

فهذا أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- يدعو ربه مستعينًا به: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ[إبراهيم: 35].

ولما تآمر عليه أعداؤه وقالوا: ﴿حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الأنبياء: 68] استعان بربه ولجأ إليه، فقال: "حسبنا الله ونعم الوكيل"([1])، فنزل عليه الفتح والنصر: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيم [الأنبياء: 69].

وها هو يوسف -عليه السلام- يستعين بربه في دفع كيد النسوة: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف: 33]، فيحفظه الله بصدقه وإخلاصه: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِين [يوسف: 24].

وهذا موسى -عليه السلام- حينما قيل له: ﴿إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ[القصص: 20] لجأ إلى ربه مستعينًا به: ﴿قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين[القصص: 21]، فحفظه، وهداه، ونجاه من القوم الظالمين.

ولما امتن الله عليه بالإحسان إلى المرأتين أدرك أن هذا محض فضل الله، واستشعر فقره وحاجته لمولاه، فقال ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير[القصص: 24].

وهكذا أهل الإيمان في جميع أحوالهم تتعلق قلوبهم بربهم، ويستعينون به في قضاء حوائجهم.

فمن يملك الأمر من قبل ومن بعد سواه؟

ومن يدفع المرض سواه؟

ومن يملك الأرزاق إلا هو؟

ومن يغيث الملهوف سواه؟

ومن ينجي المكروب من الغم سواه؟

ومن يدفع البأساء والضراء عن المؤمنين إلا هو؟

ومن ينصر المظلومين سواه؟

فيا كُلَّ مهموم ومكروب: استعن بالله وثق به.

يا من فقد حبيبًا، أو ودَّع قريبًا أو والدًا: استعن بالله، فالله هو المستعان.

يا من حُرم الذرية: لا تيأس، استعن بالله، فالله هو المستعان.

يا من تناوشته الأمراض: لا تحزن، وخذ بالأسباب، واستعن بالله، فالله هو المستعان.

يا من تكالبت عليه الديون، وأرهقته الهموم: استعن بالله، فالله هو المستعان.

يا من تخلى عنه القريب والبعيد، وخذله الصديق والحبيب: اِلتجِئ لمولاك، واستعن بالله، فالله هو المستعان.

بمن يستغيث العبد إلا بربه *** ومن للفتى عند الشدائد والكربِ؟

ومن مالكُ الدنيا ومالكُ أهلها *** ومن كاشف البلوى على البُعد والقربِ؟

ومن يرفع الغماءَ وقت نزولها *** وهل ذاك إلا من فعالك يا ربِ؟

اللهم إياك نعبد وإياك نستعين، فألهمنا فهم أسمائك الحسنى، ومعاني صفاتك العليا، ووفقنا لتدبرها، والعيش معها، والعمل بآثارها، وارزقنا صدق الاستعانة والتوكل عليك([2]).

 
 

([1]) الحديث أخرجه البخاري (4563).

([2]) الخطبة للشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز العقل.

عدد الكلمات

3269

الوقت المتوقع

54 د


منبر الحسنى

تاريخ الطباعة/التصدير: 2025-04-26 01:22م