اسم المنان

اسم كاتب الخطبة: الخطبة للشيخ راشد بن أحمد العليوي

- المنان

وفي هذا الاسم خطبة واحدة بعنوان: ربنا هو المنان

الخطبة الأولى

الحمد لله ذي المنن المتضاعفة، والمنح المتكاثفة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مولي كل عارفة([1])، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صاحب المعجزات التالدة الطارفة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي القلوب المتوالفة، صلاةً تكفر الذنوب السالفة والآنفة، وسلم تسليما، أما بعد:

فاتقوا الله أيها الناس، فالتقوى خير زاد ليومِ المعاد والقدومِ على رب العباد، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197].

أيها المسلمون والمسلمات والمؤمنون والمؤمنات: لربكم جل وعلا الأسماء الحسنى التي نؤمن بها كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[الأعراف: 180]، وله الصفات العلا التي نؤمن بها على الوجه اللائق به تبارك وتعالى من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11].

ومن أسمائه الحسنى تبارك وتعالى المنان، وهو من صيغ المبالغة على وزن فَعَّال.

ومعناه: كثير العطاء، وافر الهبات، وصانع الجميل، والمسبغ بالنعمة من نعم الدنيا والدين.

وأعظم المنن المنة بالدين، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [آل عمران: 164]، وكما قال: ﴿يَمُنـُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنـُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ [الحجرات: 17]، وكما قال: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ [النساء: 94].

وجميع ما أُعطيَ العباد من أمور الدنيا والمعاش إنما هو تفضل ومنة من الله تعالى.

والمن هو إعطاء العباد والتفضل عليهم، وهو كذلك تعديد النعم من الله على المنعم عليه.

وكلاهما معنيان صحيحان في حق الله، ولكن في حق البشر على البشر يعد المعنى الأول وهو الإعطاء والإكثار منه معنى صحيحا محمودا، والمعنى الثاني مذموما ممنوعا كما قال تعالى في النهي عنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينِ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة: 264]، وروى مسلم في صحيحه عن أبي ذر t أن رسول الله ﷺ قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي يعطي شيئا إلا مَنَّهُ" الحديثَ([2]).

فقد حظر الله على عباده المن بالصنيعة، واختص به صفة لنفسه؛ لأنه من العباد تكدير وتعيير، ومن الله إفضال وتذكير، وأيضا فإنه هو المنعم في نفس الأمر حقيقة، والعباد مجرد وسائط، وأيضا فالـمَنُّ من البشر استعباد وكسر وإذلال لمن يُـمَنُّ عليه، ولا تصلح العبودية والذل إلا لله تعالى وحده.

وقد ورد اسم المنان في الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني عن أنس t قال: دخل النبي ﷺ المسجد، ورجل قد صلى وهو يدعو ويقول في دعائه: اللهم لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، ذا الجلال والإكرام، فقال النبي ﷺ: "أتدرون بم دعا الله؟ دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى"([3]).

فمن صفاته جل وعلا المن على عباده بنعم الدنيا، وعلى المؤمنين خاصة بنعم الدنيا والآخرة جميعا، فيجب على كل مسلم أن يعلم أنه لا منان على الإطلاق إلا الله وحده الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال، فيعترف بقلبه بمنة الله عليه، ولا يستخدم هذه المنن إلا في طاعته، ويلهج بالثناء عليه سبحانه وتعالى، ويحبه غاية الحب.

 ومن آثار الإيمان باسم المنان: الشعور بالتطامن، وهضم النفس، والاعتراف بضعفها ونقصها، وأن العبد الضعيف لو وكل إلى نفسه طرفة عين لهلك وخاب وخسر، ولكن توفيق الله عز وجل ومنته هو الذي أقامه وحفظه.

ومن الآثار: عدم التعلقِ بالأسباب المادية والركونِ إليها، بل يكون التعلق الحقيقي برب الأرباب ومسبب الأسباب، فالمانُّ بكل خير هو الله، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.

ومن آثار ذلك: البعد عن صفة المن على الخلق إذا أسدى العبد إليهم معروفا، وكان بعض السلف يقول: إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها، وإذا أُسديت لكم صنيعة فلا تنسوها([4]).

وقد قال الشاعر:

وإن امرؤ أهدى إليَّ صنيعة *** وذكرنيها مرة لبخيل

وقيل: صنوان مَنْ منح سائله ومَنَّ، ومَنْ منع نائله وضَنَّ.

وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهـُم فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذَىً لَهـُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة: 262-263]، فليحذر المسلم من الـمَنّ بالصدقة والمعروف والإحسان الذي يقدمه لإخوانه المسلمين حتى لا يُحبط أو يُنتقص أجره، فيضيع عمله هباء منثورا، عياذا بالله من الحرمان.

أيها المسلمون والمسلمات: ومما يذكره بعض الناس مع اسم الله المنان أن يذكروا لفظ الحَنَّان، فيقولون: المنان الحنان، واسم الحنان لم يثبت في أسماء الله الحسنى حيث ورد في حديث ضعيف لا تقوم به حجة، كما قرره المحققون من أهل العلم.

وأما اسم المنان لله عز وجل فهو ثابت كما سبق، ويصح أن يُعبَّد له فيقال: عبدالمنان.

وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال للأنصار: "ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي؟"، فجعلوا يقولون: الله ورسوله أمَـنُّ([5]).

فهذا هو جواب العارفين بالله ورسوله، وهل المنة كل المنة إلا لله الـمان بفضله الذي جميع الخلق في مننه؟

وإنما قبحت منَّةُ المخلوق لأنها منَّـةٌ بما ليس منه، وهي منَّة يتأذى بها الممنون عليه، وأما منَّة المـان جل وعلا بفضله فهي التي ما طاب العيش إلا بها، وكل نعمة منه في الدنيا والآخرة فهي مِنَّة يمن بها على من أنعم عليه، فتلك لا يجوز نفيها، وكيف يجوز أن يقال: إنه لا منة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في دخول الجنة! فمن هداهم ووفقهم إلى ذلك إلا هو سبحانه، ولو تركهم وأنفسَهم دون هداية ما اهتدوا سبيلا، وكانوا من الضالين يقينا، وقد قال أعلم الخلق بالله ﷺ: "لن يُدخِل أحداً منكم عملُه الجنةَ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"([6]).

فهو تعالى المـان بعمل الطاعات، ثم هو المـان بالجزاء عليها بدخول الجنات.

نسأل الله عز وجل أن يمن علينا جميعا بذلك إنه هو الوهاب المنان، وهو الرحيم الرحمن.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَنُرِيدَ أَنَّ نَمـُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهـُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمـَا مِنْهُمْ مَا كُانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: 5-6].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه تبارك وتعالى هو خير الغافرين.

 

([1]) أي: معروف.

([2]) أخرجه مسلم (106).

([3]) أخرجه أبو داود (1495والترمذي (3544)، والنسائي (1300)، وابن ماجه (4164)، وأحمد في «المسند» (12205)، وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (3/457).

([4]) انظر: التفسير القيم للإمام ابن القيم (ص156).

([5]) أخرجه البخاري (4330)، ومسلم (1061).

([6]) أخرجه البخاري (5673)، ومسلم (2816).

الخطبة الثانية

الحمد لله الرحيم الرحمن، الكريم المنان، جاد على عباده بالخيرات والنعم، ودفع عنهم البلايا والنقم، وأمرهم بالطاعة والشكر، ونهاهم عن المعصية والكفر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، وسلم تسليما، أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون والمسلمات والمؤمنون والمؤمنات، واستشعروا واستحضروا منَّة الله عليكم، فله المنة على عباده، ولا منَّة لأحد عليه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

منَّةُ الله مشهودة للخليقة كلها برها وفاجرها، من جزيل مواهبه، وسعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وسعة رحمته وبره ولطفه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها، وصرفها بعد وقوعها، ولطفه في ذلك، وتخفيفه لآثارها، وصدق الله إذ يقول: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [النحل: 18].

وأعظم مننه على الإطلاق هدايتُه خاصتَه والمؤمنين به والطائعين له إلى دار السلام، وإنجاؤُهم من دار الجحيم والبوار، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلِكَنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النور: 21]، وكما قال: ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور: 26-28].

فاللهم لك الحمد شكرا، ولمك المن فضلا، لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالأهل والمعافاة، ولك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث أو سر أو علانية أو خاصة أو عامة، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد على حمدنا إياك، ولك الشكر على شكرنا لك، فأنت المنعم المتفضل المنان الرحيم الرحمن.

ثم اعلموا أيها الإخوة المسلمون أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين وإمامهم وسوادهم فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.

وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، فقد أمركم الله بذلك في كتابه الكريم، فقال جل من قائل عليما: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]([1]).

 
 

([1]) الخطبة للشيخ راشد بن أحمد العليوي.

عدد الكلمات

2414

الوقت المتوقع

40 د


منبر الحسنى

تاريخ الطباعة/التصدير: 2025-04-26 02:15م