الجواد
وفي هذا الاسم خطبة واحدة بعنوان: الله هو الجواد
الخطبة الأولى
الحمد لله ذي الجود والإحسان، والفضل والامتنان، له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وهو الجواد فجوده عم الوجــــــ *** ــــــود جميعَه بالفضل والإحسان
وهو الجواد فلا يخيب سائلا *** ولــــو انّـــه مـــــن أمـــــة الــكــــفــران
وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، حتى تركها على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
فصلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن سار على منهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وسلم تسليما، أما بعد:
أيها المسلمون والمسلمات: لله عز وجل الأسماء الحسنى البالغة الكمال والجلال والجمال، وقد قال ربكم تبارك وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180]، وقال نبيكم ﷺ فيما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين: "إن لله تسعةً وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة"، وفي لفظ: "من حفظها دخل الجنة"([1]).
قال العلماء: معنى "من أحصاها"، ومعنى "من حفظها" أي: علمها، وتدبر معانيها، واعتقدها، وعمل بدلالاتها ومقتضاها.
والعلم بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا، والإيمان بها، وإثباتها على الوجه المشروع من أقسام التوحيد، فما أعظم ذلك من موضوع وبحث، ومعنا في هذا اليوم المبارك اسم مبارك من أسماء ربكم جل وعلا، وهو اسم الجواد.
والجواد اسم ثابت في الكتاب والسنة النبوية المطهرة من حديث صححه الألباني وغيره عن ابن عباس، وسعد بن أبي وقاص y مرفوعا: "إن الله جواد يحب الجود"([2]).
وفي الحديث القدسي عند أحمد والترمذي: "يقول الله تعالى: يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته، فأعطيت كل سائل منكم ما سأل ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مرَّ بالبحر فغمس فيه إبرة، ثم رفعها إليه، وذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون"([3]).
والجواد هو كثير العطاء والإنعام والإفضال، فهو سبحانه الذي جاد على عباده بالإيجاد والإعداد والإمداد، فخلقهم من عدم، وسواهم فأحسن صورهم، وهيأ لهم ما في هذا الكون وسخره لهم، ورزقهم فكل خير منه، وكل شر ليس إليه، لا تنفد خزائنه، ولا ينقضي ما لديه، كما روى البخاري من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: "يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاءَ الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يده"([4])، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل: 53].
وأعظم ما يجود الله به على من يشاء من عباده دلالتهم عليه سبحانه، وهدايتهم لدينه وطاعته ومراضيه، واتباع من بعث إليهم من رسله.
فما من جود في الدنيا والآخرة، والظاهر والباطن، والخاص والعام إلا هو منه تبارك وتعالى، عم البرايا والخلائق بجوده وإحسانه، مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ﴾ [البقرة: 126]، أي: أرزقه في هذه الدنيا، ولكن لأنه كفر ولم يؤمن وعصى ولم يطع ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 126].
ومع جود الله وكرمه فإن هذا لا ينافي حكمته في عطائه، فكما أنه الجواد فهو الحكيم جل وعلا، ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27].
أيها المسلمون: ولمعرفة هذا الاسم الرباني الإلهي (الجواد) آثار إيمانية:
فيعتقد المؤمن كمال ربه، ويستشعر فضله وجوده، ويشكره على ذلك بكل وسائل الشكر: بجنانه، ولسانه، وجوارحه وأركانه، ويتعرض لنفحاته وعطائه الدنيوي والديني، فيدعوه ويسأله ويتذلل بين يديه ويسأله من خيري الدنيا والآخرة، ويرجو رضوانه وجنته، ويخاف غضبه وناره، فالعبد إذا أقبل على الله بكليته كان حريا أن يحقق الله مراده ويرزقه من حيث لا يحتسب، فهو تعالى أجود الأجودين وأكرم الأكرمين.
ومن آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم للجواد الكريم جل وعلا: أن يسعى المسلم إلى الاتصاف بهذه الصفة الجليلة والخلة الجميلة: الجود.
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله أن الجود له عشر مراتب يتنافس فيها الكرماء والأجواد النبلاء: فأعظمها الجود بالنفس في سبيل الله تعالى، ثم الجود بالرياسة بقضاء حوائج الناس، ثم الجود بالعلم ببذله ونشره، ثم الجود بالمال بالصدقة منه وإعطاء المحتاجين، ثم الجود بالجاه والشفاعة الحسنة، ثم الجود بالنفع ببدنه مساعدةً لغيره، ثم الجود بالعِرْض كجود أبي ضمضم من الصحابة t، فقد كان إذا أصبح قال: "اللهم إني لا مال لي أتصدق به على الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي، فمن شتمني أو قذفني فهو في حل، فقال النبي ﷺ: "من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم".
لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
ثم المرتبة الثامنة من الجود الجود بالصبر والاحتمال، والإغضاء عن الإساءة والتغافل عنها، ثم الجود بالخلق الحسن والبشر وانبساط الوجه، ثم الجود بترك ما في أيدي الناس وعدم التطلع إليه أو سؤاله أو حسدهم عليه([5]).
فهذه مراتب للجود ينبغي أن يتصف بها المسلم قدر طاقته واستطاعته، فيكون جوادا عبدا للجواد تبارك وتعالى، يجود مما يجود الله به عليه أو ممن سخرهم الله له.
يجود علينا الخيرون بمالهم *** ونحن بمال الخيرين نجود
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرًا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 274].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأفادنا سنةَ سيد المرسلين.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور التواب الرحيم.
([1]) أخرجه البخاري (6410)، ومسلم (2677).
([2]) أخرجه الترمذي (2799)، وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (3/117).
([3]) أخرجه الترمذي (2495)، وأحمد في «المسند» (21367).
([4]) أخرجه البخاري (7411)، ومسلم (993).
([5]) انظر: مدارج السالكين (2/279-282).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه، وسلم تسليما، أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واتقوا غضب الجبار، فإن الأجساد على النار لا تقوى.
أيها المؤمنون والمؤمنات: ومن الأسماء الحسنى لله عز وجل المقاربة لاسم الجواد اسم الكريم، وهو الذي يعطي لا لعوض، ويعطي بغير سبب، وهو الذي إذا قدر عفا، وإذا وعد أوفى.
وهو الكريم الأكرم الذي لا يوازيه ولا يدانيه كرم كريم، فهو الأكرم الذي انفرد بكل أنواع الكرم الذاتي والفعلي، فهو أكرم الأكرمين وأجود الأجودين، فتُعبَّدُ أسماء العباد له تبارك وتعالى، فيقال: عبدالجواد، وعبدالكريم، وكذا تُعَبَّدُ بكل ما ثبت له من الأسماء الحسنى.
نسأل الله عز وجل أن يجود علينا جميعا بخيري الدنيا والآخرة، وأن يجود علينا برضوانه والفردوس الأعلى من جنانه نحن ووالدينا وذرياتنا وإخواننا المسلمين والمسلمات إنه جواد كريم.
ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك في كتابه العظيم، فقال جل من قائل عليما: ﴿إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وقال ﷺ: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علَيَّ"([1]).
فاللهم صل وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم([2]).
([1]) أخرجه أبو داود (1047)، والنسائي (1374)، وابن ماجه (1636).
([2]) الخطبة للشيخ راشد بن أحمد العليوي.